أركان الحكم.. والاستظلال بالكورونا

أركان الحكم.. والاستظلال بالكورونا

      لعل رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ لن يجد فرصة أحسن من الأزمة الصحية، أزمة الكورونا التي تجتاح العالم اليوم، وفي أول ظهور إعلامي تقييمي لعمل حكومته، ليختبئ تحت عباءتها والظهور بمظهر القادر الحازم على إدارة الحكم بعد أن وقع الطعن في أهليته وقدرته في إدارة الشأن العام،  وكذلك بعد الغمز من الإرادة الماكرة لرئيس الدولة حين اختياره. والحال أن لا أحد سيحمّله جريرة هذا الوباء الذي يهدّد الجميع ولا تبعة البنى الصحية المهترئة التي ورثتها حكومته.

     جاء الحوار الصحفي التي أجرته معه وسائل الإعلام المحلية معدا بمناسبة هذه الجائحة ومرتبا له للتغطية عن جملة التساؤلات التي سيتعرض لها أي رئيس حكومة معين إثر مضي فترة الاختبار الأولى، عن مدى توفق حكومته التي تشكلت في وضعية صراع بين المكونات السياسية وقدرتها على إدارة الأوضاع العامة في البلاد، كمسألة إخراج البلاد من الوضعية التي تردت فيها والتخلص من تبعيتها للدول الاستعمارية، التي عرتها هي نفسها أزمة الكورونا هذه، وكشفت إجرامها وأنانيتها ولا إنسانيتها وبلطجتها, حتى أنها لم تتورع عن العودة إلى تصرفات خلنا أن لا أحد يجرؤ على إتيانها، كقرصنة المواد الطبية في البحار والمطارات، إذ لم تستح دول تعد كبرى بين الدول على أن تقترف هذا العار، ولم تخجل، أو استهانة مسؤوليها بإنسانية الإنسان واستغلال أزمة البشرية الصحية والبحث عن الربح المادي كتصريحات الرئيس الأمريكي ترامب، أو دعوة بعض أطبائهم إلى اتخاذ الأفارقة، ونحن منهم، فئران تجارب، لأبحاثهم العلمية، من أجل إنقاذ شعوبهم دون حياء أو وجل، مذكريننا بالتجارب الفرنسية النووية بأهلنا في الجزائر.

    وكان من المفروض أن يساءل عن خطة حكومته لإدارة الأوضاع الاقتصادية وخاصة مجابهة ظاهرة تفشي البطالة بين مختلف الطبقات الاجتماعية، وظاهرة استنزاف الطاقة البشرية للبلاد كهجرة الأدمغة من العلماء والمتخصصين في مختلف فروع العلم إلى دول الغرب طلبا لرواتب أعلى أو التماسا لأحوال معيشية أو فكرية أفضل. أو هجرة السواعد الشابة المنتجة التي لو تجد عملا يحقق لها حدا أدنى من الكرامة البشرية. بعد أن صار يقينا لدينا أن مسؤولي هذا الزمن قد نفضوا أيديهم من التفكير في ثروات البلاد المنهوبة، بل واستقر لديهم أن لا حقّ لنا فيها, وأن الحديث حولها ظلم للناهبين.

    جاءت ردود رئيس الحكومة على أسئلة أعدت لإبراز رضا الحكم عن نجاعة « الإجراءات الاستباقية » لمجابهة الأزمة الصحية والمتمثلة في شل البلاد بدعوة الناس إلى التزام الحجر الصحي الذاتي وذلك بإغلاق المدارس والمعاهد والجامعات ومنع تواصل الإنتاج على المستوى الصناعي وإجبار أغلب الصناعيين على إغلاق مصانعهم بدعوى منع التجمعات البشرية للحيلولة دون انتشار المرض, بل وصل الأمر إلى حد منع انتقال الناس من مدينة إلى أخرى، يأتي كل ذلك للتغطية على فشل الحكم في « الاستباق الحقيقي » الذي كان يمكن أن يعفي البلاد من سجنها وشل الحياة فيها، وتكليف طاقاتها الطبية وشبه الطبية فوق طاقتها بوسائل ومعدات تكشف عن عظم الجرم الذي اقترفته الحكومات المتعاقبة منذ ما يزيد عن 60 سنة في حق الأمن الصحي للبلاد، وذك بمحاصرة الداء من أول يوم ظهر فيه بيننا، وفي نقطة ظهوره، ومنع أسباب تسربه إلينا وانتشاره فينا, وبوضع الاستراتيجية المناسبة خاصة وان للسلطة شواهد مما جرى في الصين قبل أشهر وفي غيرها من البلدان والأقاليم التي تسرب إليها المرض.

    إلا أن سلطة لا تملك أمرها بيدها وكل إرادتها معلقة بمصلحة الآخر المهيمن ووفق ما تقتضيه إرادته هو لا يمكن أن ينتظر منها فلاح. فيوم أن أعلنت السلطة عن قرار منع السفر إلى ايطاليا، في مرحلة أولى، إلا عبر مطار روما ظننا أن القرار سيادي إلا أن الحقيقة تكشفت عن أن ذلك القرار راجع إلى إجراء اتخذ في ايطاليا بإغلاق كل مطاراتها في نطاق مجابهة أزمتها إلّا مطار عاصمتها.

      لقد بلغت الجرأة برئيس الحكومة حد تحميل الناس في تونس جريرة استمرار ظهور حالات المرض لعدم احترامهم لضوابط الحجر الصحي الذاتي وربط إمكانية تفاقم الأوضاع الصحية بذلك، والحال انه لم يعد للأمر عدته بأن تتكفل الحكومة بحاجة الناس الضرورية وحاجتهم الملحة للتكسب اليومي. فإذ منعتهم الدولة من الاسترزاق فقد وقع عليها حتما عبء مؤونتهم. ولكنها صارت تمنيهم وتعللهم بالصبر والتحمل ثم بالروتين الإداري كتقديم  نسخ بطاقات التعريف ثم بتعمير الاستمارات، على ضحالة المعلوم المقدر لهم، كاشفة  بذلك عن غياب جرد مفصل للواقع الديمغرافي للسكان وتحديد حالات الناس, وذلك في عصر الرقمنة، وسرعة الحصول على المعلومة عبر تطبيقات لا تعجز خبرة شبابنا ومهندسينا عن إرسائها وتيسير عمل موظفي الإحصاء والإداريين ومد السياسيين بنتائجها لوضعها في خدمة الناس وتيسير عيشهم، أم أن ذلك ميسور للمراقبة الأمنية وتصنيف الناس حسب آرائهم ومواقفهم منها. والحال أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين احتاج لتدبير شأن المال وهو الخليفة الذي يرقب الله فيمن ولاه سبحانه وتعالى، لم يزد على أن استشار، فأمر، فدونت دواوين الناس بحسب أوضاعهم وأحوالهم في المجتمع، فكان حق كل فرد يصله بالوسائل المتوفرة يومها. فقد كانت إرادته بيده.

    يقول المثل الحكيم « إن السعيد من اتعظ بغيره والشقي من اعتبر بنفسه » إلّا أن سلطة العمالة والتبعية لا يعظها غيرها ولا اعتبار لها بنفسها بل ولا ينفعها درس. فرئيس الحكومة أجاب في الحوار المذكور عن سؤال مصادر التمويل التي سيجابه بها الوضعية الاستثنائية التي تمر بها البلاد، والحال انه يعلم أن الوضع المالي للبلاد على شفا الهاوية وقد عبر عن ذلك وزير المالية محمد نزار يعيش في جلسة الاستماع أمام البرلمان بقوله « ان الوضعية المالية العمومية صعبة جدا جدا جدا… وان وباء الكورونا ستكون له تداعيات كبيرة على الاقتصاد… وان هناك مخاطر منتظرة من الناحية الإستراتيجية وإن التقديرات التي بنيت عليها الميزانية ــ ميزانية 2020 ــ خاطئة ومعترفا أن القرارات التي ستتخذ على ضوئها ستكون حتما خاطئة، فيأتي جواب رئيس الحكومة، مقرا لرأي وزير ماليته ومشيرا إلى ضرورة إعادة هيكلة الميزانية آخذا في الاعتبار طارئ الأزمة الصحية، متجاهلا في خضم الحلول التي يطرحها، إمكانية عدم خلاص الديون الخارجية في هذه الظرفية العالمية، وهو حل ممكن، سياسيا وأخلاقيا، فلقد خانته الشجاعة لطرح هذه المسالة وعرضها للبحث والنظر والتدقيق في كل القروض التي تحملتها البلاد في وضعيات آن أن يسلط عليها المجهر لكشف الحقيقة ومحاسبة العابثين بمصير البلاد والعباد. ومصرا في هذا الظرف الحساس على أن يضع رقابنا تحت مقصلة أعدائنا والذين اعتبرهم شركاء لنا، واعتبار أن أوروبا، وصندوق النقد الدولي، والبنك العالمي وفروعه مصادر لتمويل ميزانيتنا، فلم يفده درس رئيس صربيا ولا موقف الايطاليين من الاتحاد الأوروبي….

     فلا اعتمد رئيس الوزراء في تعبئته لميزانيةٍ هو المسؤول الأول عنها على الحق الذي للدولة عند من اقترضوا من مالية البلاد بغير حق، مقادير ضخمة، ولم يعيدوها، ولا هو فرض الواجب الحتمي، على القادرين أن يؤدوا الذي عليهم فيضمن للبلاد حاجتها ومنعتها، ويكفيها بما يغنيها فلم يحوجها لغيرها. فلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة، إذ لم يلجأ إلى الاقتراض لسد خلة المهاجرين رضوان الله عليهم، وقد تركوا مالهم ودورهم بالهجرة في مكة معالجا أزمة المجتمع الاقتصادية بالمؤاخاة، أي بقدرات المجتمع الذاتية، ولم يلجأ للاقتراض ولو داخليا.

       إلا أن قلب الرحى في حديث الفخفاخ إلى وسائل الإعلام الرسمية والخاصة يوم 02 ــ 04 ــ2020 لن تكون فيه الأزمة الصحية العامة هي الشجرة التي ستخفي الغابة، بل هو الصراع « الخفي العلني » بين مكون الحكم في قرطاج والقصبة وباردو, والذي يستمد من النهج الديمقراطي المتهاوي عالميا مشروعيته.

لقد كانت هذه الأزمة الصحية ذريعة لقطبي السلطة التنفيذية للتعلل بالنجاعة في التسيير وسرعة اتخاذ القرارات، لافتكاك دور من منافس سياسي، تحت غطاء تفسيرات دستورية كانت كافية لتعرية هذه المنظومة السياسية وإبراز تهافتها وعبثية مقولة تعدد السلط في هذا النظام الديمقراطي ومسرحية التفريق بينها. فلولا الخشية من تهمة التفريط في مصالح الناس لما قبلت السلطة التشريعية بالتفويض، ولولا ذاك الغطاء لما استطاعت السلطة التنفيذية بلوغ وترها، مستهينة بعملية فضح تهافت النظام السياسي الديمقراطي وعجزه مبدئيا على مجاراة أزمة طارئة. فلم ير الفخفاخ ضيرا، تحت عنوان المصلحة الوطنية أن ينزع الصفة التشريعية عن البرلمان بل اتهمه ضمنيا أنه عامل معطل لمصالح الناس معمق لأزماتهم لا عامل خير لهم.

عبد الرؤوف العامري

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )