إعادة ترتيب آيات القرآن الكريم.. تنكيس مقصود لتشويش بنيته المعنويّة ونسخ شرائعه وتحريف رسالته

إعادة ترتيب آيات القرآن الكريم.. تنكيس مقصود لتشويش بنيته المعنويّة ونسخ شرائعه وتحريف رسالته

حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال :ثالث المشاريع المسمومة المستهدفة لكتاب الله يتمثّل في إعادة النظر في ترتيب سوره وآياته وفق التسلسل الزمنيّ لنزول الوحي…ومع مشاركته لسابِقَيْه في الخبث والدّهاء والمكر إلاّ أنّ هذا المشروع ينفرد بجرعة زائدة من الجراءة على الله ورسوله وكتابه وأحكامه :إذْ يعتزم (مراجعة) القرآن الكريم وتحقيقه وصنصرته وتعديله عبر التصرفّ في بنيته وتشويش مادّته وتغيير نظامه المصحفيّ وإعادة ترتيب آياته زمنيّا حسب خطيّة الوحي بما يفضي عمليّا إلى نشوء سور جديدة في شكل (كوكتال) من الآيات وتأليف قرآن جديد مخالف ـ مبنى ومعنى ،منطوقا ومفهوما ـ لما هو موجود حاليّا بين دفّتي المصاحف العثمانيّة ،هكذا بكلّ صفاقة…وكديدن المشاريع الاستعماريّة المسمومة فقد دُسَّ في دسم (الاستنارة والاعتدال والحداثة والاجتهاد والتجديد…) وبتعلّة (تفعيل الإسلام وتوضيح الرؤيا التاريخيّة للتشريع والترتيب الأصلي لنزول الأحكام بما يمكّن المسلمين من فهم مسألة النّاسخ والمنسوخ ومعرفة السلّم التفاضليّ للواجبات والمحرّمات…) تلبيسا وتضليلا وتخديرا للمسلمين واستدرارا لتعاطفهم مع هذه الجريمة المستهدفة لكتابهم المقدّس ومصدر تشريعهم الرئيسيّ بالتحريف والمسخ والتشويه…

مشروع استعماري

على أن هذا المشروع المسموم قد انخرط فيه الكافر المستعمر ـ تنظيرًا وممارسة ـ منذ مطلع القرن العشرين حيث حاول سنة 1923 تمريره عبد بوّابة الأزهر الشريف نشدانًا للمصداقية الشرعية، فأوعز إلى صنائعه في تلك المنارة العلمية فوضعوا بين يدي المسلمين نسخة من الترتيب الأصلي لآيات القرآن الكريم كما نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم في تسلسلها الزمني الخطّي وذلك في حركة خجولة مدسوسة مفروضة بالحديد والنّار تبرّأ منها مشائخ الأزهر أنفسهم وسرعان ما وُئدت في مهدها وطواها النّسيان…بعد قرابة القرن (سنة 2008) حاول المفكّر المغربي محمد عابد الجابري إحياء المشروع وتزويد (قرآنه الجديد) بتفسير حداثي…ثمّ تلقّف المشروع الوزير الجزائري الأسبق ومؤسّس (حزب التّجديد) المدعو (نور الدّين بوكروح) الذي دعا سنة 2015 إلى مراجعة ما أسماه (قرآن عثمان) وإعادة ترتيب آياته وسوره وفق التّسلسل الزّمني لنزولها… وهي كلّها محاولات عقيمة لم تر النّور ولم تتجاوز حدود (النوايا السيّئة) ولم تتعدّ حجم الفقاعات الإعلامية التي ما إن تظهر على السّطح حتى تذهب جفاءً…

أمّا العقل المدبّر لهذا المشروع والرّحم التي اعتمل فيها والأيادي الخفيّة التي روّجت له بين المسلمين فهي المدرسة اليعقوبية الفرنسية بوصفها الواجهة الفكرية التّنظيرية للاستشراق الكولونيالي: فقد أوقفت نفسها على الطّعن في الإسلام ومهاجمة نبيّه وأعلامه وتشويه تاريخه والتشكيك في نصوصه ومصادر تشريعه وخلخلة مسلّماته وثوابته ،فانطلقت من فرية في شكل مصادرة مفادها أنّ جمع مادّة القرآن الكريم وترتيبها وتنظيمها بالشكل الذي يظهر اليوم في المصاحف العثمانية هو مجرّد اجتهاد بشري وقراءة انتقائيّة للوحي وتوظيف سياسي مذهبي متعصّب للقرآن أخرجه مخرجًا عدائيًّا متطرّفًا مشوّهًا متخلّفًا…وهذا يستوجب صنصرة المادّة القرآنية المتوفّرة وتحقيقها وإعادة تنظيمها وفق معايير جديدة بشكل يفضي إلى قراءة عصريّة تقدّمية متصالحة مع الحضارة الغربية منسجمة مع مفاهيمها…أمّا المعيار المعتمد فهو تفكيك النص وإعادة تركيبه أي صياغة المادّة القرآنية صياغة جديدة بترتيبها وتنظيمها وفق تاريخيّة نزول الوحي بشكل يمكّن من فتح الباب أمام قراءات اجتهادية حداثيّة في إطار حملة إصلاح للفكر الإسلامي…وحسبي فيما يلي أن أبرهن على تهافت هذه الفرية شرعًا وأن أكشف الغايات الخبيثة التي يروم الكافر المستعمر تحقيقها من خلالها…

في ميزان الشّرع

إن المدقّق في منهجية الوحي في تأليف القرآن وبنية سوره ومواضع آياته لا بدّ له من أن يفرّق بين ثلاثة مفاهيم: (الوحي الخطّي) أي مادّة الوحي الخام حسب الترتيب الزّمني لنزولها…(الوحي المرتّب) أي ترتيب الآيات فيما بينها ضمن سورها…(الوحي المنظَّم) أي ترتيب السّور بالنسبة إلى بعضها وضبط عدد آياتها ومواضعها من السّور:فهناك عمليّتان مختلفتان منفصلتان عن بعضهما، الأولى هي نزول الوحي في شكل آيات، والثانية هي إدراج الآيات الموحى بها في مواضع معيّنة من سور معيّنة… والثابت تاريخيًّا أنّ الوحي المرتّب والمنظّم مخالف للوحي الخطّي: فترتيب آيات القرآن وتنظيم سوره لم يكن مطابقًا لترتيب نزوله زمنيّا لأنّ القرآن لم ينزل جملةً واحدة وإنّما نزل على مراحل تارةً بتتابعٍ وطورًا بتراخٍ على امتداد (23 سنة) وذلك لحكمة إلهية، قال تعالى (وقرآنًا فرقناهُ لتقرأه على الناس على مُكثٍ ونزّلناه تنزيلاً) أي جعلنا نزوله مفرَّقًا على مُهلٍ وتُؤدة وتثبّت مُنجّمًا حسب الأسباب والحوادث والوقائع وإجابات السّائلين…وكانت المادّة القرآنيّة تنزل في مواضيع شتّى ومناطاتٍ متعدّدة وتُنظّم بشكلٍ مخالف لتسلسلها الزّمني مراعاة للبناء المعنوي للسّور: إذ نجد في نفس الوقت مجموعة من السّور تُؤلّفُ بالتّوازي أو بالتّداوُل، فيعتني الوحي بسورةٍ معيّنةٍ ثمّ يتركها إلى أخرى ثمّ يعود إلى الأولى ثمّ يعدل عنهما إلى ثالثة أو رابعة…فَتُدرج الآيات في سورةٍ أولى بينما التي تليها في سورةٍ ثانية والتي تليها في سورةٍ ثالثة أو رابعة وقد تُلحق مجدّدًا بالأولى أو الثانية وهكذا دونما التزامٍ بالتّسلسل الزّمني لنزول الوحي في بناء السّورة الواحدة…فالسّور لا تؤلّف بشكلٍ خطّي بحيث نفرغ من سورة وننتقل إلى التي تليها، فهناك تداخل في ترتيب الآيات زمنيًّا ضمن السّور نفسها يجعل من أيّ محاولة لإعادة ترتيبها حسب خطيّة النّزول من قبيل المستحيل العقليّ ،إذ يُؤدّي بالحتم إلى فرقعة السّور القرآنيّة ونشأة سور جديدة أي قرآن جديد في نهاية الأمر، هذا فضلاً عن تشويش البناء المعنوي لكتاب الله واستنطاقه بما لم ينطق وتحميله مضامين جديدة ونسخ تشاريعه وأحكامه…

توقيف من الله

وهذه العمليّة الدّقيقة في تأليف القرآن الكريم ـ بنيةً وتنظيمًا ـ لم تكن اعتباطيّة أو عبثيّة أو خاضعة لهوى الرّسول ومزاجه أو لأذواق جامعي القرآن ومصالحهم وتوجّهاتهم السّياسية، وإنّما كان مردّها إلى الوحي أوّلاً وأخيرًا: فهي بتوقيفٍ من جبريل عليه السّلام الذي يصدر عن أمر الله عزّ وجلّ…إذ ثبت أنّه عليه السّلام كان يرشد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلى مواضع الآيات الموحى بها إليه قائلاً (ضع كذا في موضع كذا من سورة كذا) وبدوره كان الرّسول يرشد كتبته وما على الرّسول إلاّ البلاغ، عن زيد بن ثابت قال: (كنّا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نؤلّف القرآن من الرّقاع ونرتّب الآيات حسب إرشاد النّبي) والتأليف يشمل التّرتيب والتّنظيم على حدٍّ سواء: ففيما يتعلّق بترتيب آيات كلّ سورة فإنّ الرّسول كان إذا نزلت الآيات أمر بوضعها موضعها من السّورة قائلاً (ألحقوا هذه الآية في سورة كذا بعد آية كذا)، وعن عثمان رضي الله عنه قال: (كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تنزل عليه الآيات فيقول: ضعوها في السورة التي يُذكر فيها كذا)…أمّا تنظيم السّور بالنسبة إلى بعضها فإنّ تأليف المصحف العثماني الذي يبدأ بالفاتحة فالبقرة وينتهي بالمعوّذتين ثمّ النّاس هو الآخر توقيفيٌّ من الله تعالى تمامًا كترتيب الآيات: فحدود السّور ثابتة بالوحي، عن ابن عبّاس قال: (كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يعلم ختم السّورة حتّى ينزل باسم الله الرحمان الرّحيم، فإذا نزلت علِموا أنّ السورة قد انقضت)…

أمّا تنظيم السّور فيُفهم من أحاديث عرض القرآن المأثورة عن ابن عبّاس وأبي هريرة وعن أمّ المؤمنين عائشة والسيّدة فاطمة عليها السلام حيث قالت: (أسرّ إليّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن جبريل يُعارضني بالقرآن كلّ سنة وأنّه عارضني العامَ مرّتين ولا أراه حضر إلاّ أجلي)…فعرض جبريل القرآن على رسول الله بشكل دوري معناه عرض جُمَله وكلماته وترتيب آياته فيما بينها مع بيان مواضعها في سورها وترتيب سورها بالنّسبة إلى بعضها أيضًا…فتنظيم الوحي إذن ليس فعلاً بشريًّا موكَلاً إلى الصّدف والأهواء والأذواق والمصالح والنّوازع المذهبيّة والسياسية، بل هو فعلٌ إلاهيّ لدُني ربّاني لا نملك أن نتخطّاه شروى نقير: فتنظيم الوحي وحيٌ وترتيب القرآن جزءٌ لا يتجزّأ من القرآن، والمسلمون اليوم مُلزَمون شرعًا بنظام المصاحف العثمانيّة الذي بلغنا عن جبريل عن رسول الله بالتّواتُر وما خالفهُ فهو تنكيسٌ قبيح محرّم منهيٌّ عنه بصريح الحديث: (لا تقرؤوا القرآن منكوسًا)، كما أنّه خبر آحاد منسوخٌ بالعرضة الأخيرة لا يعتدُّ به ولا يكون حُجَّةً…

التوظيف السياسي

لقد توصّلنا من خلال زاوية النّظر الشّرعية إلى نتيجةٍ حتميّة مفادها أنّ تشويش مادّة القرآن الكريم وإعادة ترتيب آياته وسُوره وفق أيّ معيارٍ آخر خلاف الوحي هو بمثابة الإعدام لكتاب الله كنصٍّ مقدّسٍ ومصدرٍ أساسيّ من مصادر التّشريع في الإسلام، لأنّ ذلك يثمر كتابا بشريّا عاديّا ،إذ ينزع عن القرآن صفة الوحي ويُزيل عنه القداسة ويُحرّفه  ويؤثّر على بنائه المعنوي وطبيعة أحكامه ويغيّر رسالتهُ وينسخ شرائعهُ ويُخضِعُه ـ منطوقًا ومفهومًا ـ لقراءاتٍ شتّى واحتمالاتٍ لا متناهية ممّا ينفي عنه بالتّالي حجيّته كمصدر أساسي من مصادر التّشريع وهذا عين العبث وأقبح الحرام… وهو أيضا عين ما يروم الغرب الاستعماري تحقيقه من خلال هذا المشروع المسموم المستهدف لكتاب الله: فمع استحالة نزع العقيدة الإسلاميّة والقرآن الكريم من صدور المسلمين  لا مناص من ضرب النّسخة الأصليّة لكتاب الله وتعويضها بـ (قرآن بتصرّف) مفتوح على شتّى الاحتمالات يبيض الكافر المستعمر بين سطوره ويفرّخ بما يضمن له ترويض المسلمين ويكرّس تخلّفهم وانحطاطهم ويؤبّد ضعفهم وتبعيّتهم ويحول دون نهضتهم وإقامة دولتهم وانفكاكهم من براثن الرّأسمالية الجشعة، مع الحرص كلّ الحرص على تمرير مشاريعه الهدّامة عبر القنوات الفقهية الرسميّة وإلباسها جبّة الاجتهاد والاستنارة والغيرة على الإسلام وتلقّفها من أفواه اللّقطاء من أبناء المسلمين أنفسهم في شكل (فتاوى شرعية) لئلاّ يستيقظ تنّين صلاح الدّين الأيّوبيّ الكامن في وجدان كلّ مسلم…

أ.بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )