الاتّحاد الأوروبي والهجرة غير الشرعية  » داخلين في الرّبح خارجين ملْ خسارة « 

الاتّحاد الأوروبي والهجرة غير الشرعية  » داخلين في الرّبح خارجين ملْ خسارة « 

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: أثناء انعقاد قمّة زعماء الاتّحاد الأوروبي بتاريخ الخميس 21/06/2018، تقدّم قادة القارّة العجوز بطلب بحث إمكانيّة إنجاز تجمّعات ومخيّمات لإيواء المهاجرين غير الشرعيّين قبل البتّ في قضائهم مع مصالح الهجرة، على أن يكون ذلك خارج دول الاستقبال (الاتحاد الأوروبي) وفوق أراضي دول العبور (شمال إفريقيا) وخاصّة ليبيا التي تؤوي حاليًّا 55 ألف حارق من جنسيّات مختلفة عربيّة وإفريقيّة وآسيويّة…وقد تبنّى هذا المشروع ـ تصوُّرًا وتصميمًا ـ الإيطاليّون ودافعوا عنه بقوّة بصفتهم وجهة تقليديّة للهجرة غير الشرعيّة ومتضرّرا رئيسيّا منها ،وساندتهم في ذلك بعض الدّول من أوروبا الشرقية التي تُتّخذ ممرًّا نحو الجنّة الأوروبية الغربيّة الموعودة على غرار المجرّ وبلغاريا والنّمسا…وبالتّزامن مع هذه القمّة احتضنت تونس لقاءً جمع المنظّمتين الاستخباريّتين (frontex+eubam) بمسؤول من الإدارة العامّة لأمن السّواحل في حكومة السرّاج المدعو (بشير أبو نويرة) وذلك لبحث برامج تدريب وتقديم مساعدات من الاتحاد الأوروبي لخفر السواحل اللّيبي في إطار محاربة الهجرة غير الشرعية ووَأدها في مهدها (الأراضي والمياه الإقليميّة اللّيبية) قبل أن تطالهم آثارها السّلبية…وحسْبنا فيما يلي أن نُحاول فهم هذا المنطق الاستعماري البغيض في التعامل مع آفة اجتماعية سياسيّة تشترك دول حوض البحر الأبيض المتوسّط جميعها في التّأسيس لها، لكنّ الشمال يسعى إلى التفصّي من تداعياتها وتحميل الجنوب وحده فاتورتها كاملة…

صراع دولي

وقد ناقش القادة الأوروبيّون منذ سنة 2015 إمكانيّة القيام بإجراءات أمنيّة واستخباراتية وعسكريّة قد تتطوّر إلى استهداف ما أسموه (مهرّبي البشر) في عقر دارهم وتدمير زوارقهم على السواحل اللّيبية قبل أن يستقلّها المهاجرون…إلاّ أنّ احتراز بعض دول الاتحاد (ألمانيا ـ السويد ـ النمسا) من مغبّة الانزلاق في مغامرة عسكرية خارجية غير مأمونة العواقب أفشل هذه المبادرة، ناهيك وأنّ حكومة حفتر قد حذّرت الاتّحاد الأوروبي من القيام بخطوات عسكريّة أُحاديّة على أراضيها دون تنسيق مسبق معها…فمّما لا شكّ فيه أن الوضعية السياسيّة الحاليّة في ليبيا شاذّة وغير طبيعيّة: فاحتدام الصّراع الدولي على البلاد بين أوروبا بقيادة بريطانيا صاحبة الامتياز الأولى، وأمريكا القوّة العظمى الباحثة عن موطئ قدم في شمال إفريقيا أفرز بعد الثورة حكومتين متوازيتين، الأولى حكومة طرابلس الشرعية المنسوبة إلى الوفاق الوطني بقيادة (فايز السرّاج) وهي حكومة مدعومة أوروبيًّا وتحظى باعتراف إقليمي ودولي…أمّا الثانية فحكومة بنغازي المنسوبة إلى الجيش الوطني اللّيبي بقيادة المشير (خليفة حفتر)، وهي حكومة مدعومة من طرف أمريكا وروسيا، ورغم افتقادها للشرعيّة فإنّها تحظى بدعم ومساندة عملاء أمريكا لاسيما مصر والسعوديّة والإمارات…وقد اقتضى هذا الصّراع أدوات محليّة ميدانيّة تديره بالوكالة في شكل فصائل مسلّحة إمّا قبليّة أو داعشيّة أو ميليشيات مأجورة تقاتل لحساب هذا الطّرف أو ذاك…ومن الطّبيعي أن ينعكس هذا الصّراع على مسألة الهجرة غير الشرعية ـ تكريسًا واستثمارًا وتوظيفا ـ بما حوّل ليبيا إلى نقطة عبور وممرّ آمن نحو الضفّة الشماليّة للمتوسّط…وفيما استنفرت أوروبا كلّ قواها لمواجهة أزمة تدفّق قوارب الموت نحو سواحلها، استغلّت الفصائل المتقاتلة هذه الوضعيّة الهشّة للتّمعش من مافيا التهجير بمقابل واهتبلت أمريكا الفرصة لتعميق جراح القارّة العجوز: فعملت على التحكّم في حنفيّة المهاجرين غير الشرعيّين بما يؤزّم الوضع داخليًّا ويهزّ استقرار الخصوم الأوروبيّين خارجيًّا عسى ذلك يفضي بها إلى وراثتهم في القطر اللّيبي…

فوضى غير خلاّقة

إنّ الوضعيّة السياسية الهشّة في ليبيا والمتمثّلة في حكومة برأسين وغياب سلطة مركزيّة قوية مسيطرة على الوضع وما انجرّ عن ذلك من اقتتال دموي بين الفصائل المسلّحة من جهة وبين الحكومتين الأصليّة والموازية من جهة أخرى قد كرّس أجواء من الانفلات الأمني والفراغ الإداري والمؤسّساتي والفوضى غير الخلاّقة انتعشت في ظلّها تجارة تهريب الشباب الإفريقي الحالم بالهجرة والرّاغب في تحسين وضعيّته الماديّة والاجتماعيّة والخروج من حال الدّونية والتهميش والفقر والبطالة بالالتحام بالنموذج الأوروبي الأمثل الكفيل بتحقيق هذا الحلم، وذلك ـ طبعًا ـ عبر السواحل اللّيبية (السّائبة) والقريبة جغرافيًّا من جنّة الفردوس الأوروبي الموعود…هذه الوضعيّة دقّت ناقوس الخطر في الضفّة الشماليّة للمتوسّط لما يمثّله هذا السّيل المتدفّق من المهاجرين غير الشرعيّين من تعكير لصفو الحياة الأوروبية لاسيما مع تفاقم الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعية التي تعاني منها القارّة العجوز أصلاً وشيوع أجواء الإرهاب والإسلاموفوبيا والحذر المهووس من الأجانب الذي لامس حدود العنصريّة المقيتة…إزاء هذه الوضعيّة الحسّاسة وجد الاتحاد الأوروبي نفسه في موقف حرج: فهو ـ مدفوعًا بالمبدأ الرّأسمالي الجشع الذي يطحن إنسانيّة الإنسان ـ يروم تحقيق معادلة صعبة تصوُّرًا وتصميمًا وتنفيذًا في شكل قسمة ضيزى تجعل منه (داخل في الربح خارج مل خسارة) بحيث ينعم بالمنافع والمصالح الماديّة منها والمعنويّة دون أن تطاله آثارها الجانبيّة السلبيّة… هذا المنطق الاستعماري البغيض البشع يتجاوز في الواقع حتى فكرة الحل الوسط الرّأسمالية، فلسان حاله يقول بكلّ وقاحة وصفاقة (خيراتك ومقدّراتك استفرد بها كلّها وحدي من دونك، وجرائمي في حقّك تتحمّل أنت وحدك مسؤوليّتها وتبعاتها كاملة من دوني)…إنّه باختصار (شرط العازب عل هجّالة) ومنطق (بوسني ونهرّسك)…

اصبروا أو لا تصبروا

فعلى مستوى التصوّر، لا يرى الكافر المستعمر إفريقيا إلاّ حديقة خلفيّة لأوروبا عبارة عن منجم للموادّ الأوّلية وحقل للطاقة ومزرعة خصبة وسوق للفائض والتالف من منتوجاته ومتنفّس فسيح لشركاته ومكبّ نفايات لسمومه وفضاء رحب لثقافته وحضارته وميدان شرعي لصراعه مع (نظرائه من العالم الحرّ) له فيه مطلق التصرّف: فيسيطر سياسيًّا وعسكريًّا وينهب مقدّرات البلاد وخيراتها لخاصّة نفسه ويُغرق أهلها في الفقر والخصاصة والتهميش والبطالة والاقتتال بالوكالة ويمسخهم ثقافيًّا ويجعلهم أسرى النموذج الغربي…كلّ هذا ويرفض أن يتحمّل جزءًا بسيطًا من تبعات جرائمه تلك وآثارها الجانبيّة ولو بإيواء بضع مئات من ضحاياه والمبهورين بمدنيّته الخادعة الزائفة والمضبوعين بثقافته…باختصار إنّه يجعل من نفسه جنّة وفردوسًا ونموذجًا يُحتذى وقطبًا جذّابًا بدماء الشعوب وخيراتهم ومقدّراتهم ،ويحوّل مستعمراته إلى جهنّم وسقر وسعير وبئس المصير، ثم يريد لأهلها أن يمكثوا فيها ويصلوها هنيئًا مريئًا دون أن تُراودهم أحلام الانتقال إلى فردوسه/فردوسهم، مصداقًا لقوله تعالى في حقّ نزلاء جهنّم (اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم)…أمّا على المستوى العملي التنفيذي فإنّ الغرب الاستعماري تنصّل من تبعات سياسته تلك وعمد إلى إلقاء الكرة في شباك مستعمراته وعملائه محمّلاً إيّاهم ذنبًا هم منه براء فضلاً عن كونهم ضحاياه، فكلّفهم بمعالجة مخلّفات جرائمه في حقّ شعوبهم وبلدانهم في مهدها وقبل أن تطاله آثارها الجانبيّة إمعانًا منه في الصّلف والغطرسة والمكيافلية: فهو يقتل القتيل ولا يتجشّم مشقّة دفنه أو مجرّد السير في جنازته، إذ أنّ الوضعيّة التي دفعت بالشباب الإفريقي إلى قوارب الموت نحو الجنّة الأوروبية الموعودة هي ثمرة مسمومة لسياسة الغرب الرّأسمالي تجاه مستعمراته نهبًا وتفقيرًا وتهميشًا وترويعًا ومسخًا…والوضعيّة التي جعلت من ليبيا نقطة عبور وممرًّا آمنًا يتدفّق منه هذا السّيل الجارف من المهاجرين غير الشرعيّين نحو الضفّة الشماليّة للمتوسّط هي أيضًا نتيجة حتميّة لصراع القوى الاستعماريّة ـ لاسيما أمريكا وأوروبا ـ على الاستفراد بخيرات الصّحراء اللّيبية وتورُّطها في التسويق للنّموذج الداعشي ولشمّاعة الإرهاب تبريرًا وتوظيفًا…

المأزق اللّيبي

ولئن استطاع الغرب الاستعماري أن يمتصّ جزءًا كبيرًا من آثار هذه الأزمة في مستعمراته المستقرّة سياسيًّا عبر سنّ ترسانة قانونيّة وفرض حزمة من الإجراءات الجمركيّة وعبر التنسيق الأمني الميداني على الحدود البرّية والبحريّة، إلاّ أنّ الإشكال في واقع ليبيا الموسوم بغياب حكومة مركزيّة قويّة وانتشار فوضى السّلاح وتفاقم الاقتتال بين الفصائل وبين رأسي الحكومة وضع أوروبا أمام خيارين أحلاهما مرّ: فإمّا أن تضطلع بمهمّة التصدّي للهجرة غير الشرعيّة بمفردها في نقطة الوصول أي على أراضيها وفي حدودها البريّة والبحريّة بما يحيل عليه ذلك من مشقّة ومتاعب داخليّة وأزمات اجتماعيّة واقتصاديّة وإحراج أخلاقي حضاري بحكم كونها نصّبت نفسها النّاطق الرّسمي باسم الحقوق والحريّات والمدافعة عن الأقليّات العرقيّة والإثنيّة في العالم …وإمّا أن تقوم بخطوات أمنيّة وعسكريّة أحاديّة الجانب في نقطة الانطلاق أي على الأرض اللّيبية وفي المياه الإقليميّة اللّيبية قد تتطوّر إلى استهداف المهرّبين عسكريًّا وتدمير زوارقهم ومنع نشاطهم بما يمثّله ذلك من خطر التّصادم مع الفصائل المسلّحة أو مع قوّات حفتر والانزلاق في مغامرة عسكريّة خارجيّة غير مأمونة العواقب قد تكلّفها ثمنًا باهظا في الأرواح والعتاد في ظلّ احتدام الصّراع بين الأطراف المتقاتلة على الميدان…

قفّاز محلّي

إزاء هذه الوضعيّة العدميّة يبدو أنّ الاتّحاد الأوروبي يبحث من خلال قمّة زعمائه الأخيرة عن الحلّ السلمي القانوني التوافقي بالوكالة ،حيث تكتفي القارّة العجوز بالدّعم المادّي واللّوجستي والمخابراتي وتوكل أمر التنفيذ الميداني إلى قفّاز محلّي يتولّى نيابةً عنها التصدّي للمهاجرين غير الشرعيّين وإدارة المعاقل والمحتشدات الّتي ستؤويهم قبل طردهم إلى بلدانهم، بحيث يضطلع هذا الطّرف بدور المتراس والحاجز العازل وممتصّ الصّدمات وكبش الفداء الذي ينجز المهامّ القذرة بالوكالة عن أوروبا ويحفظ لها أمنها واستقرارها وماء وجهها في آن…إلاّ أنّ هذا المطلب يبدو في ظلّ هذه الظّروف عزيز المنال، إذ يحتاج إلى وجود محاور ليبي رسمي يسمح له بتقديم دعم أمني مادّي لوجيستي لتأمين الوضع وحماية الحدود وإحباط نيّة الهجرة غير الشرعية ووأدها في مهدها ونقطة انطلاقها…غير أنّ الساحة السياسية اللّيبية الحاليّة لا يمكن لها توفير هذا الطّرف: فالسلطة برأسين يتنازعان الشرعيّة، وأمريكا من مصلحتها تعكير الأجواء والدّفع بمسألة الهجرة إلى أقصى سرعتها وكذلك الأمر بالنّسبة إلى الفصائل المافيوزيّة المتمعّشة من الظّاهرة… وبين هذا وذاك لا أمل للشباب الإفريقي إلاّ في الفردوس الأرضي الحقيقي: خلافة راشدة على منهاج النبوّة تعيد الخيرات المنهوبة إلى أصحابها وتقضي على الجشع الرّأسمالي وتحقّق للشباب المهمّش الحالم الرّعاية والكفاية والأمن والأمان وتجوز بهم إلى أوروبا على الغوّاصات النوويّة وقاذفات الشبح وحاملات الطّائرات ـ لا على قوارب الموت وزوارق الانتحارـ فاتحين مبشّرين ومنذرين معزّزين مكرّمين مرهوبين ـ لا مستجدين مضبوعين لاجئين أذلّة صاغرين ـ بل تقلب معادلة الهجرة غير الشرعية بحيث تصبح الدولة الإسلامية نقطة وصول وقطبًا جذّابًا للشباب الأوروبي المهمّش (المضبوع بالثقافة الإسلاميّة) والتوّاق لتفيّؤ ظلال التابعيّة الإسلاميّة وما ذلك على الله بعزيز: (ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبًا)…

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )