الجيوش الإسلاميّة والعقيدة العسكريّة (ج 2)

الجيوش الإسلاميّة والعقيدة العسكريّة (ج 2)

..وبالمحصّلة فإنّ للجيوش الحديثة ثلاثة مفاتيح تمكّن من التحكّم فيها (العقيدة العسكريّة ـ البناء الهرمي التّرابي ـ النظام العقابي الصّارم)، فهذا الثالوث هو بمثابة لوحة القيادة التي تمكّن من إخضاع المؤسّسة العسكريّة وتسييرها وتوجيهها وتوظيفها لتحقيق الأهداف السياسيّة للدّولة وضمان أمنها..وممّا لا شكّ فيه أنّ أهمّ ضلع في هذا الثالوث هو العقيدة العسكريّة لأنّه هو الذي يصوغ الناحية الفكريّة الثقافيّة المبدئيّة للجيوش وما الضلعان الآخران إلاّ مكمّلان له تنظيميًّا وإداريًّا :فهناك علاقة جدليّة ترابطيّة بين مبدأ الجيش وثقافته وعقيدته وبين طاعته وخضوعه والتزامه، وتأثير العقيدة العسكريّة على ولاء الجيش ونجاعته كبير وحتميّ وآليّ: فهي التي تملي تلك النّواحي وتوجب الالتزام بها وتحدّد مدى الخضوع لها، فالعسكريّ مهما كانت رتبته يبقى إنسانًا وكائنًا بشريًّا قبل كلّ شيء سلوكه مرتبط بمفاهيمه عن الحياة ومقاييسه وقناعاته، فهي تعيّن له نوع المشاعر التي تدفع وكيفيّة السّير وبحسبها ينظّم مصالحه وينشئ علاقاته مع غيره.. من هذا المنطلق شكّلت العقيدة العسكريّة الرّكن الأساسي في رسم السياسة العسكريّة لأيّ تجمّع بشري بصرف النّظر عن تطوّره أو تخلّفه (إمبراطوريّة ـ دولة ـ قبيلة ـ عصابة..)، ولا يمكن لأي شكل من أشكال التنظّم العسكريّ أن يتحرّك ويحقّق أهدافه دون عقيدة عسكريّة مهما كانت منحطّةً أو غريزيّة (سلب ونهب ـ ثأر وانتقام..) المهمّ أن يتحرّك وفق فكرة ورؤية وغاية يروم تحقيقها وإلاّ عمّت الفوضى وانعدم التّجانس وكانت الهزيمة والفشل.. فلا مناص إذن لمن يريد بناء جيش أو كسب ولاءه وتأييده ونصرته من استهداف عقيدته العسكريّة ـ إن بالوضع والصّياغة أو بالتعهّد والتركيز أو بالتحوير والنّسخ ـ هذا إجمالاً: أمّا تفصيل ذلك فيقتضي منّا الإجابة عن التّساؤلات التالية: ما المقصود بالعقيدة العسكريّة..؟؟ ما هي مستوياتها ومصادرها..؟؟ ما مكانة الجانب الثقافي المبدئي فيها..؟؟ ما علاقتها بالعقيدة السياسيّة للدولة..؟؟ كيف تساهم في السيطرة على الجيوش وتطوير نجاعتها القتاليّة..؟؟ كيف يمكن استهدافها وتوظيفها..؟؟

في العقيدة العسكريّة

ككلّ أمر ذي شأن وأهميّة قصوى عُرِّفت العقيدة العسكريّة تعريفات شتّى تناولتها من عدّة زوايا (فنيّة ـ تقنيّة ـ إجرائيّة ـ استراتيجيّة ـ سياسيّة ـ أخلاقيّة ـ عقائديّة..) ورغم تعدّد هذه التعريفات فإنّها تشترك جميعها في خطّ عريض يدور حول العقيدة السياسيّة للدّولة وأمنها القومي وسياستها العسكريّة العامّة، كما تشترك في الإجابة عن التّساؤلات المركزيّة التّالية: متى نقاتل..؟؟ من نقاتل..؟؟ كيف نقاتل..؟؟ لِمَ نُقاتل..؟؟ حتّامَ نقاتل..؟؟ أمّا أوجز وأشمل تعريف للعقيدة العسكريّة فهو (فنّ وعلم إدارة الصّراع المسلّح لتحقيق العقيدة السياسيّة للدّولة)، وهو تعريف يجعل من العقيدة العسكريّة خادمًا وحاميا ومؤمّنًا ومكرّسًا للعقيدة السياسيّة للدّولة بما هي (مجموع التعاليم والقيم السامية والمبادئ السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والرّوحيّة التي نبعت من حضارة الشعب ورسخت في وجدانه وعقد عليها قلبه وضميره)..وبمقتضى هذا التعريف تتغذّى العقيدة العسكريّة من مصادر شتّى أهمّها على الإطلاق: عقيدة الدّولة سواء أكانت دينيّة أو إيديولوجيّة أو فكريّة مبدئيّة من وضع القادة السياسيّين..القيم والمبادئ والعادات والتقاليد والأعراف السائدة في الدّولة والشائعة في شعبها..التاريخ العسكري للدّولة بما هو حصيلة خبرات وتجارب وقراءات متراكمة عبر السنين..كما تتغذّى من التطوّر التقني والتكنولوجي والفنّي وما يتطلّبه من تحديث ومواكبة..ومن ثوابت الأمن القومي أي مصادر التهديد والتغيّرات المستمدّة في النّظام العالمي والحروب المتوقّعة من حيث نوعها وشكلها ومستوياتها ومداها..وتتغذّى أيضًا بالناحية الجيواستراتيجيّة للدّولة من حيث الموقع والموارد والحالة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة بما هي محدّد رئيسي لحجم تنظيماتها العسكريّة ونوعيّتها وطريقة استخدامها ومدى تأثيرها على سياساتها الدّاخليّة والخارجيّة.. وعلى هذا الأساس فإنّ العقيدة العسكريّة شأن سياديّ ذاتي خاصّ يهمّ دولة معيّنة دون غيرها: فلا توجد عقيدة عسكريّة واحدة صالحة لكلّ الدّول (standard) بل هناك عقيدة عسكريّة لكلّ دولة تختلف باختلاف واقع وظروف وخصوصيّات كلّ دولة..فقمّة الإجرام ومنتهاه أن تتولّى دولة أخرى صياغة العقيدة العسكريّة لدولة ما لأنّ ذلك بمثابة عقد استعمارها ونهبها ومسخها وتسخيرها لمصلحة تلك الدّولة..

مستويات العقيدة العسكريّة

وعلى ضوء هذه المغذّيات يمكن أن نميّز بين خمسة مستويات للعقيدة العسكريّة: أوّلاً: المستوى المبدئي العقائدي الذي يحدّد البناء الفكري الثقافي والخلفيّة الإيديولوجيّة للجيش إجمالاً ولجنوده تفصيلاً. ثانيًا: المستوى الاستراتيجي الذي يحدّد ويعرّف التهديدات والمخاطر والتحدّيات التي تواجه الدّولة أو تستشرف مواجهتها، أي تطويع العقيدة العسكريّة للعقيدة الأمنيّة واستراتيجيّة الأمن القومي للبلد. ثالثًا: المستوى الفنّي التكنولوجي: الذي يُعنى بتحديث الأسلحة والعتاد وتمكين الجيش من مواكبة التطوّر التكنولوجي والتقني على مستوى التسليح والتدريب والنّواحي اللّوجستيّة. رابعًا: المستوى العملي التعبوي: ويُعنى بالمجهود الحربي لتعبئة موارد الدّولة والقوّات المسلّحة للحرب، أي بناء العقيدة القتاليّة للجيش من حيث التنظّم والخطط والإعداد والتجهيز والتدريب لخوض المعارك وتحقيق الأهداف العسكريّة. خامسًا: المستوى الأخلاقي الذي يُعنى بالجانب الإنسانيّ القيميّ للعقيدة العسكريّة ويزوّد الجيوش برصيد من القيم السامية ويوجّهها نحو الفضائل ويقيّد سلوكيّاتها أثناء تنفيذ مهامّها بضوابط وقيم دينيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة..

هذه المستويات الخمسة مرتبطة ببعضها ارتباطًا وثيقًا فلا يمكن الفصل بينها أو الاستغناء عن بعضها لأنّ كلّ مستوى مكمّل للآخر بحيث تشكّل بمجموعها العقيدة العسكريّة في أكمل صورها بما هي (مجموعة من القيم والمبادئ الفكريّة التي تهدف إلى إرساء نظريّات العلم العسكري وفنّ الحروب وتحدّد بنية واستخدامات القوات المسلّحة زمن السّلم والحرب بما يحقّق المصالح والأهداف العليا للدّولة). فرغم أنّ أغلب هذه المستويات ذو طابع فنّي تقني إلاّ أنّ الجانب الثقافي والمبدئي العقائدي هو الخيط الرّابط بينها، فهي لا تحدّد كيفيّة القتال فقط بقدر ما تحدّد مجموعة من المبادئ الأساسيّة حول طريقة تفكير القوّات المسلّحة خلال المواقف القتاليّة المتنوّعة وتعيّن لها من توالي ومن تعادي ومن تقاتل وكيف ومتى ولِمَ تقاتل، فهي عقل المؤسّسة العسكريّة ومشاعرها وأحاسيسها، وبالتّالي فهي بوّابة رئيسيّة لمن يروم استهداف تلك المؤسّسة بالاستقطاب والنّصرة شرط أن يستند على عقيدة الجند والشّعب، أمّا أن يكون الجسد مسلما والعقل والمشاعر والأحاسيس أوروبيّة فهذا مشروع استعمار وفناء..

العقيدة العسكريّة الإسلاميّة

إنّ النّسخة الإسلاميّة للعقيدة العسكريّة تتلخّص في مبدأ الولاء والبراء، ويتّضح ذلك جليًّا في السيرة النبويّة العطرة :فقد اشترط صلّى الله عليه وسلّم على المستهدفين بالنّصرة الإيمان بنبوّته ورسالته ومشروعه السياسي، واشترط عليهم قتال قريش المشركة دون تحفّظ لأنّها (تظاهرت على الله وكذّبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحقّ)..كما امتنع عليه الصلاة والسلام عن قبول النّصرة المشروطة من بني عامر بن صعصعة وبني شيبان لأنّها تكبّل النّصرة وتفرغها من محتواها ،فتحدّ من مجالات القتال ودواعيه والمستهدفين به، وتضع من شرائع البشر ومصالحهم الدنيويّة الدّنيئة فوق شرع الله ومصلحة الإسلام والمسلمين العليا بما يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً..ومبدأ الولاء والبراء مركزي في الإسلام: فهو الذي يحدّد للمسلم ـ سواءً المدني أو العسكري ـ من يوالي وممّن يتبرّأ وعلى أيّ أساس يوالي ويعادي، كما يحدّد له المصلحة الشرعيّة التي يجب أن يقاتل في سبيلها والطّرف الذي يجب أن يقاتله أو يقاتل في صفّه، بل تحدّد له حكم التجنيد (واجب) وصفة القتال (جهاد) ودرجته (تأديب ـ إبادة وإفناء) ومآل من يُقتل (شهادة)..وهذا المبدأ قائم أساسًا على العقيدة الإسلاميّة، فالولاء والبراء يجب أن يكون خالصًا لله ورسوله، فلا نوالي إلاّ من والى الله ورسوله ولا نتبرّأ إلاّ ممّن حارب الله ورسوله ،قال صلّى الله عليه وسلّم (أُمرت أن أقاتل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدًا رسول الله ويقيموا الصّلاة و يؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دمائهم وأموالهم إلاّ بحقّ الإسلام وحسابهم على الله).. والعقيدة الإسلاميّة هي العقيدة السياسيّة للدّولة الإسلاميّة أي هي أساس الدّولة بحيث لا يتأتّى وجود شيء في كيانها أو جهازها أو محاسبتها أو كلّ ما يتعلّق بها إلاّ بجعل العقيدة الإسلاميّة أساسًا له، فهي الفكرة الأساسيّة التي يقوم عليها السلطان في الدّولة ومجموع المفاهيم والمقاييس والقناعات التي يسعى لتنفيذها في الدّاخل وحملها رسالةً إلى العالمين ،وهذا يقتضي من الدّولة تطويع كيانها وجميع أجهزتها ودساتيرها وقوانينها للعقيدة الإسلاميّة، ومن باب أولى عقيدتها العسكريّة ناهيك وأنّ المؤسّسة العسكريّة ركن ركين من تلك الأجهزة، فالدّولة الإسلاميّة دولة رساليّة والجهاد ماضٍ فيها مع البرّ والفاجر..فأيّ تحوير ولو بسيط على العقيدة العسكريّة يُفقد الدّولة صفتها الإسلاميّة ويسلبها سيادتها وسلطانها..

الشمول والكمال

إنّ استناد العقيدة العسكريّة على القيادة العسكريّة يجعلها تتّسم بالثبات والدّيمومة والتواصل على عكس العقائد العسكريّة العلمانيّة الحديثة الخاضعة لمؤثّرات خارجيّة تقنيّة وسياسيّة وأمنيّة واستراتيجيّة بما يجعلها عرضة للتحوّل والتغيّر والتبدّل باستمرار..كما يجعلها أيضًا تتّسم بالشمول والكمال بحيث لم تغادر صغيرةً ولا كبيرةً في الشأن العسكري إلاّ فصّلتها وبيّنتها وقنّنتها (العقيدة القتاليّة ـ العقيدة الأمنيّة ـ النّواحي اللّوجستية ـ الاستراتيجيّات العسكريّة ـ التسليح ـ التّدريب ـ التجنيد ـ التعبئة ـ التنظيم ـ المجهود الحربي ـ الثّقافة..) مصداقًا لقوله تعالى (ما فرّطنا في الكتاب من شيء)..وقد أولى الإسلام أهميّةً بالغة للعقيدة العسكريّة لما لها من دور أساسيّ في ذروة سنام الإسلام (الجهاد) وفي شحن المقاتل المسلم بالطّاقة الرّوحية الكفيلة بتحسين مردوده القتالي..لذلك فقد استغرقت الأحكام الشرعيّة جميع مستويات العقيدة العسكريّة: فعلى المستوى المبدئي العقائدي عُنِي الإسلام بتركيز الثقافة الإسلاميّة والثقافة العامّة في الجيش وتكريس العقيدة الإسلاميّة فيه، فقد حثّنا الله تعالى على التّوبة والعبادة والصّوم والصّلاة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وبذل النّفس والمال للفوز بالجنّة (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة..) ـ التّوبة 111/112 ـ وحثّنا على الصّبر والثّبات والمرابطة (يا أيّها اللّذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تفلحون)، كما حثّنا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم على الجهاد في سبيل الله (مقام الرّجل في الصفّ في سبيل الله أفضل من عبادة الرّجل ستّين سنة)..وعلى المستوى الفنّي التّقني أوجب الله تعالى الإعداد المادّي من تسليح وعتاد وعدّة قدر المستطاع لإرهاب العدوّ بما يحيل عليه ذلك من مواكبة أحدث الصّيحات العسكريّة وأرقى درجات التطوّر التكنولوجي (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم)، وكان الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أوّل من رمى بالمنجنيق في الإسلام فقد نصبه على أهل الطّائف أربعين يومًا.. (يتبع)..

الأستاذ سّام فرحات

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )