الديمقراطية المنكوبة في مجالها، ليست سبيلا لجلاء الاستعمار وعملائه

     لم يكن الممثل الأعلى للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي « جوزيب بوريل » في حاجة إلى أن يدير لسانه سبع مرات بين فكّيه، حين قال في كلمته التي ألقاها يوم الإثنين 17 أكتوبر 2022، خلال افتتاح الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية الجديدة في بروج في بلجيكا إن «أوروبا حديقة، لقد بنينا حديقة، أفضل مزيج من الحرية السياسية والرخاء الاقتصادي والترابط الاجتماعي استطاعت البشرية أن تبنيه، لكن بقية العالم ليس حديقة تماما، بقية العالم… أغلب بقية العالم هو أدغال»، ليضيف أنه: « من الضروري أن تمتد الحديقة إلى الأدغال وأنه على البستانيين أن يذهبوا للأدغال … وإلا فإن بقية العالم سوف تغزو أوروبا ». هو ليس في حاجة إلى ذلك، فهو بصدد مخاطبة جيل جديد من القادة الدوليين التي افتتحت الأكاديمية الأوروبية للدبلوماسية من أجل إعدادهم للذهاب إلى تلك « الأدغال » الموجودة خارج الحديقة « أوروبا »، استعادة للدور الذي لعبه أسلافهم, حين انطلقت أسراب قطعانهم قبل أربعمائة عام تاريخ بدء إحضار الأفارقة المستعبدين إلى فرجينيا في الولايات المتحدة، واكتساحهم لسائر أقاليم الدنيا للسيطرة على شعوبها بزعم نشر الحضارة، وإشاعة الرقيّ فيهم.

والممثل الأعلى للسياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي « جوزيب بوريل » ليس في حاجة إلى أن يراعي أبسط قواعد الدبلوماسية في الحديث، فهو يرى نفسه »بأفضل حال، لما لا؟» وأن عليه »أن يفجر من وقت لآخر شيئا ما أمام الرأي العام»، خاصة وأنه يعلم يقينا أن تصريحاته لن تستفزَّ في شيء جملة النُطَّار (الفزاعات) التي نصبتها أوروبا خلال « زواريب الأدغال »، وأسمتها حكاما. وما وصف « لمفوض الأوروبي لسياسة الجوار والتوسع » (نعم التوسع)، « أوليفر فارهيلي »، أمام البرلمان الأوروبي، بعد يومين من تصريح الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل ذاك، تونس بـ »الشريك المهم والجار الوثيق للاتحاد الأوروبي »، وتأكيده بأن انتخابات قيس سعيد التشريعية يوم 17 ديسمبر القادم « حدث مفصلي في هذه الفترة الانتقالية الحساسة »، إلا تحقيقا لسياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية التي تحدث عنها ممثله الأعلى « جوزيب بوريل »، ضمن تمدد الحديقة (أوروبا) إلى شيء من الأدغال (تونس). اقتضاء، أن دعم الاتحاد الأوروبي لتونس رهن على مدى « وفاء » القائمين على أمرها والتزامهم بالمبادئ والقيم الأوروبية، « المبادئ والقيم المشتركة »، و »احترام المكتسبات الديمقراطية وسيادة القانون وفصل السلطات واحترام الحقوق والحريات الأساسية »، تحت طائلة سيف طرق تعبير الاتحاد عن مخاوفه عند الضرورة. فالاتحاد الأوروبي، ساسته وخبراؤه، يدركون أن التحولات السياسية التي تمر بها بلادنا تمثل تحديًا، فكان من الضروري عنده، الاستمرار في الوقوف إلى جانب « الشعب التونسي »، كوقوفهم معه خلال العقد الماضي، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، ولكن أيضًا على الصعيد السياسي. هذه بعض الكشوفات التي رشحت عن أمناء « الحديقة الفاضلة » من بلدنا تونس وثورتها، وهذا شيء من البضاعة التي يروجها، في بلادنا وبين أهلنا، وكلاء ذاك المزيج من الحرية السياسية والرخاء الاقتصادي والترابط الاجتماعي استطاعت البشرية أن تبنيه، الذي يفاخر به « جوزيب بوريل ».

       وعلى الضفة الأخرى للأطلسي، حيث الامتداد الطبيعي لتلك « الحديقة »، فلم يفت « كريستوفر ليمونت »، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل، في اجتماعه يوم 14 أكتوبر 2022  بتوفيق شرف الدين، وزير الداخلية، وقد فتح له التهافت الكاريكاتوري، الذي أصبح يميّز المشهد السياسي، باب التدخل في شؤوننا، بكل يسر، مدعوما بتمنُّع صندوق النقد الدولي عن الحسم في مطلب مبلغ غير محدد لتمويل برنامج إصلاحي، فلم يظفر المتهافتون بعد أشهر من المفاوضات إلا على اتفاق مبدئي من الناحية التقنية، لتتعهد أمامه الوزارة  ب « العمل على القطع مع الفساد ومكبّلات الأمن الجمهوري وعلى تكريس العمل النقابي وعلوية القانون والمساواة أمام القانون والمحافظة على المال العام وحياد الإدارة وإنجاح الانخراط في الالتزام الدولي للتصدي للإرهاب، فكرا ونشاطا وتمويلا، وذلك انتصارا للديمقراطية وللمبادئ الكونية لحقوق الإنسان والحريات العامة والفردية ».

    ففي الوقت الذي يجهد قادة الفكر الرأسمالي وساسته، في هذه الظروف السياسية العالمية المضطربة، بحرص لافت على إعادة رسم المشهد « الجغراسياسي »، وتثبيت موقعه فيه، وذلك بحمل بقية العالم على التسليم بأن فكرها ونمط عيشها، أي مبدأها الرأسمالي، هو الوحيد الذي يجب على الجميع تبنيه عقيدة ونظاما، في جميع تصوراته الحضارية والثقافيّه، نجد الوسط السياسي في تونس وقد ألجمه العجز عن قيادة البلاد وإخراج الناس من النكد الذي جرفه عليهم سياساتهم فلم يجدوا ملجأ إلا مزيد الارتماء في أحابيل العدو الذي أحكم قبضته على كل شيء حتى لم يعودوا يبصرون إلا من خلال ما يسمح لهم به صاحب الحديقة الفاضلة. فهذا قيس سعيد الذي مُكّن من كل السلطات لم يخف أنه « سيصنع جلاءً جديدا ولكن ليس من قوى الاستعمار، بل  من عملائه في تونس » مع أنه هو الذي لا يخفي كونه جاء ليصحح مسار الديمقراطية، عقيدة المبدإ الرأسمالي التي يفاخر بها « بوريل » في تونس، ويقوم ما اعوج منه على يد من سبقوه. وأما « مظاهرات (جماعة ضد الانقلاب) فهي تعتبر القوّة الرئيسية لبقاء قيس سعيّد في الحكم وهم نبض الحياة لهذا النظام » فهم لا ينقمون منه إلا أنه استأثر بالحكم وحده، وخص نفسه بأهلية التشريع من دون الله عزّ وجلّ، والتنفيذ دونهم، وأن كامل الطّيف المعارض مع الإصلاحات التي يُتّفق عليها من خلال حوار تونسي، في إصرار على أنه ليس بأقدر منهم على إرضاء أرباب الحديقة الفاضلة، وأنهم بلغوا من « التحضر » أشواطا تؤهلهم لممارسة الحكم.

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )