"العروشية" فرع من شجرة خبيثة اسمها الوطنية
“العروشية” فرع من شجرة خبيثة اسمها الوطنية
في كلمة العدد, مميز
December 19, 2020
283 زيارة
اندلعت في الأيام الأخيرة مواجهات دامية بين أهالي من معتمدية بني خداش التابعة لولاية مدنين وأهالي من دوز الشمالية من ولاية قبلي على خلفية نزاع عقاري يتعلق بمنطقة عين السخونة أدت إلى وفاة شخصين واصابة العشرات بجروح متفاوتة الخطورة فضلا عن أضرار كبيرة لحقت الممتلكات الخاصة. ولم تكن تلك الموجهات الأولى من نوعها فقد سبقتها أحداث أخرى مشابهة شهدتها معتمدية جبنيانة من ولاية صفاقس وولاية سيدي بوزيد وولاية قبلي والحوض المنجمي قبل الثورة.
تعددت المواجهات والدافع واحد وهو النعرات القبلية أو ما بات يعرف ب”العروشية”, هذا وقد قوبلت المواجهات الاخيرة بكم هائل من الاستنكار والاستهجان وأطلقت من كل مكان صيحات الفزع وأوشكت وسائل الإعلام أن تعلن الحداد وتدعو إلى تنكيس الأعلام حزنا وكمدا ليس على الأرواح التي أزهقت وانما على ما يعتبرونها أغلى من الأرواح والدماء بل أبعد من ذلك يرونها هي الحامية للأرواح والحاقنة للدماء والصائنة للأعرض إن تغيب بغيابها الكرامة والسيادة وان لم يتحل بها المسؤول وعامة الناس تسوء أحوال البلاد والعباد ويغرق الجميع في المستنقع كالذي نتخبط في أوحاله وأدرانه اليوم. هذا الشيء يسمونه الوطنية ويعني الولاء المطلق للوطن إلى حد التقديس والاعتزاز والفخر بالانتماء اليه مع وجوب التعصب اليه وجعل حبه فوق كل اعتبار. هذا الكلام الانشائي الذي يردده دعاة الوطنية صباحا مساء نجده لا يختلف في شيء عما ينادي به المتعصبون لقبائلهم وجهاتهم وحتى لعائلاتهم, وكل ما قام به بعض اهالي بني خداش وأهالي دوز الشمالية هو عبارة على نموذج مصغر للوطنية المبنية أساسا على العاطفة وناتجة عن ردة فعل غريزية نجدها عند الإنسان كما نجدها عند الحيوان, فكلما أحس الانسان أو الحيوان بالخطر يهدد موطنه دافع عنه بدافع غريزة حب البقاء لا غير, فالوطنية التي رفعوا شأنها إلى حد التقديس لا نراها إلا في الحالات الاستثنائية كالحروب أو الكوارث, واليوم أصبحنا لا نسمع لها ركزا الا خلال المقابلات الرياضية بين دولة ما وأخرى. أما في الأوضاع العادية تختفي ويخبو حماس المنادين بها ولا يستحضرونها إلا خلال مزايداتهم وصراعاتهم حول المناصب والمغانم, فكل الحكومات فشلت لأن أعضائها لا يملكون القدر الكافي من الوطنية والتهمة ذاتها يرمى بها من يعارض الحكومة والحال أن وطنتيهم تلك تتجاوز كونها مفهوما هلاميا خاويا من كل معنى, ولا ينبثق عنه ما ينظم علاقة الناس بعظهم ببعض, ولا يحدد لا واجبات ولا حقوق ويحدد ما يجب على الدولة القيام به. فقط هي كلمة يرددونها كلما دعتهم الحاجة لذلك, فهي كالشجرة التي لا تطرح ثمرا ولا توفر ظلا.
كما أنها لا تختلف عن “العروشية” التي يدعون اليوم الناس إلى نبذها وهذا ما عمل عليه كبيرهم الذي علمهم السحر “الحبيب بورقيبة” رمز الوطنية وزارع شجرتها ف”بورقيبة” عمل جاهدا على القضاء على داء “العروشية” وقد نجح إلى أبعد الحدود في مسعاه وتمكن من استبدال ذلك الداء بداء آخر أوسع وأشمل وهو داء الجهوية, حيث قسم البلاد إلى مناطق مرفهة نسبيا وأخرى تعيش في الحضيض مما غذى الكراهية والنقمة في نفوس أهالي الجهات المحرومة والمهمشة وانحدر الاعتزاز بالانتماء للوطن إلى الاعتزاز بالانتماء للجهة ولا شيء يعلو على مصلحة الجهة، وهذه السياسة واصل “بن علي” على نهجها بل عمل على تكريسها وترسيخها أكثر فأكثر متبعا شبرا بشبر سياسة “فرق تسد” التي اتبعها سائر حكام المسلمين ليتمكن المستعمر من بسط نفوذه السياسي والاقتصادي على العالم الإسلامي والاستحواذ على مقدراته وفرض وجهة نظره ومفاهيمه وأفكاره على أهله, وقد مكنته الوطنية من الوصول إلى كل أطماعه ومآربه الدنيئة, فهي بمثابة الحصن المنيع الذي حمى سجن “سايكس بيكو” ومزّق العالم الاسلامي إلى مزق مشتتة وضعيفة يسهل التحكم فيها من غرف عمليات المسؤول الكبير.
وكما ساعدت الوطنية على تمكين المستعمر من الهيمنة على بلاد المسلمين بعد أن فرقتهم الوطنية البغيضة مكنت ما تسمى ب”العروشية ” أعوانه وأذياله من الهيمنة على البلاد ودفع أهلها إلى التناحر من أجل مكاسب اوهموهم بأنها ذات بال والهائهم وصرف أنظارهم على ما أجرمته الدولة في حقهم بإهمالها كليا لواجبتها تجاههم, وعليه ف “العروشية” والجهوية لا يختلفان عن الوطنية ولا تفوقهما في الانحدار والانحطاط.
حسن نوير
December 19, 2020