الغارة « الإسرائيليّة » على حمّام الشطّ : حمّام دمّ لتركيع المقاومة الفلسطينيّة وإدخالها بيت الطّاعة الإسرائيلي  2/

الغارة « الإسرائيليّة » على حمّام الشطّ : حمّام دمّ لتركيع المقاومة الفلسطينيّة وإدخالها بيت الطّاعة الإسرائيلي 2/

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: كنّا في الجزء الأوّل من هذه المقالة طرحنا على أنفسنا التّساؤل المنهجي المركزي التّالي: أين تتموقع الغارة « الاسرائيلية » على حمّام الشطّ ضمن السّيرورة التاريخيّة للقضيّة الفلسطينيّة في طريقها الدّموي نحو التّصفية..؟؟ وقد بيّنا في سياق الإجابة عنه أنّ إسرائيل انتهجت لابتلاع الكعكة الفلسطينيّة دون عُسر هضم مسارين متوازيين متزامنين: الأوّل خارجي إقليمي دولي الهدف منه شرعنة تلك الجريمة وتقنينها وإشراك أصحاب الشّأن والمجتمع الدّولي في اقترافها… أمّا المسار الثّاني فداخليّ محلّي فلسطيني الغاية منه تركيع المقاومة الفلسطينيّة وكسر شوكتها وإرغامها على التّفاوض والتّنازل والقبول بالشّرعية الدّولية العرجاء والتّفريط في الأرض والمقدّسات…وقد تتبّعنا هذا المسار في مسلكه الدّموي عبر الأراضي الفلسطينيّة فالأردن ثمّ لبنان إلى حدود الاجتياح الإسرائيلي وخروج المقاومة نحو الشّتات البعيد ومنه تونس…فما الّذي جعل إسرائيل تتجشّم مشقّة اللّحاق بالمقاومة إلى حدود حمّام الشّط بما يمثّل ذلك من مخاطرة وإحراج دولي…؟؟ وكيف استطاعت أن تنفّذ غارتها رغم بعد الشُّقة وتراكم الحدود والسّدود والدّفاعات الجوّية المعادية…؟؟ ثمّ ما هي تداعيات تلك الغارة على مستوى الخيارين: العسكري المسلّح والتّفاوضي الانبطاحي..؟؟

                                                                                   مقاومة بسبع أرواح                                          

لقد تصوّر الصّهاينة أنّهم باجتياحهم للبنان وتحجيمهم للمقاومة وتفكيكهم للمخيّمات وطردهم للمقاتلين نحو الشّتات البعيد، يكونون قد أسقطوا البندقيّة الفلسطينيّة إلى الأبد وأقصوا عنهم الخيار العسكري وأمّنوا اليهود وحقنوا دماءهم وجرّوا المقاومة عُنوةً إلى طاولة الاستسلام…ولكن ـ للمرّة الثّالثة على التّوالي ـ يخيب عشمهم وتسقط حساباتهم في الماء ويجدون أنفسهم يراوحون في المربّع الأوّل: فهذه الأحداث الجسام الكفيلة بتصفية أعتى الحركات المسلّحة لم تزد المقاومة الفلسطينيّة إلاّ حرارةً وصمودًا وتعنُّتًا، بل دفعت بها إلى السّرعة القصوى لاسيما بعد مذابح صبرا وشاتيلا التي زوّدت الجينات العربيّة والإسلاميّة عمومًا بمورّثات الحقد الأعمى والبغض المقدّس لليهود وكيانهم…فكانت الفترة من 1982 إلى 1985 بمثابة سنوات الجمر للوجود الإسرائيلي في لبنان حيث عمد صقور المقاومة إلى نسج العمليّات الفدائيّة ـ تصوّرًا وتخطيطًا وتصميمًا ـ وتحريك خيوطها من وراء البحار في حصنهم المنيع بحمّام الشطّ…وكانت الشّرارة الأولى يوم 24/09/1982 حيث استهدف الفدائي (خالد علوان) ضابطًا إسرائيليًّا وجنديّين على رصيف مقهى الحمراء فأرداهم قتلى…ولم يمرّ أسبوع على تلك الحادثة حتّى كانت بيروت تشتعل بالعمليّات ضدّ الجيش الإسرائيلي بمعدّل عمليّة كلّ خمس ساعات: (استهداف مباشر للجنود والضبّاط ـ هجومات بالصّواريخ على المواقع العسكريّة ـ كمائن ثابتة ومتنقّلة ـ مهاجمة الدّوريات وقوافل الجيش…) ممّا اضطرّ الإسرائيليّين إلى الانسحاب من بيروت إلى الجبل حيث تبعتهم المقاومة بضرباتها الموجعة يستوي في ذلك الفلسطينيّون والسوريّون واللّبنانيّون، السّنة والشّيعة والدّروز، المسلمون والمسيحيّون والشّيوعيون…فكان هذا أوّل مسمار في نعش مقرّ قيادة الأركان الفلسطينيّة بحمّام الشطّ وملحقاته…

تطوّر نوعي خطير

لقد مثّل تاريخ 11/11/1982 منعرجًا نوعيًّا وتحوّلاً كيفيًّا خطيرًا على مستوى طبيعة العمليّات الفدائيّة باعتماد أسلوب الاستشهاديين والسّيارات المفخّخة ممّا مكّن المقاومة من تسديد ضربات موجعة للصّهاينة وحلفائهم…الخطوة الأولى كانت مع الشّهيد (أحمد قصير) الذي فجّر مقرّ الحاكم العسكري الإسرائيلي بمدينة صور ما أدّى إلى تدمير المبنى المؤلّف من 08 طوابق على من فيه وأوقع 81 قتيلاً صهيونيًّا… ثمّ تلاها تفجير مقرّ المخابرات اليهوديّة في المدينة الذي أودى بحياة 29 إسرائيليًّا، وقد علّق على قائد المنطقة الشماليّة على الحادثتين بقوله (لقد كانت الصّدمة الأولى والأقوى للجيش الإسرائيلي في لبنان)… وقد بلغت العمليّات الاستشهاديّة ذروتها في 18/04/1983 تاريخ تفجير سفارة الولايات المتّحدة الأمريكيّة في بيروت التي قتل فيها 60 أمريكيًّا وجُرح 100، وتبعه في نفس السّنة التّفجير الدّموي للحاجز العسكري المشترك الذي أوقع 58 جنديًّا فرنسيًّا و241 من المارينز…سنة 1985 كانت ـ بامتيازـ سنة العمليّات الاستشهادية، حيث أصبحت (موضة) مستهلكة تُسجّل بالعشرات يوميًّا وانخرطت فيها علنًا قوى حزبيّة (الجهاد الإسلامي ـ حركة أمل ـ حزب الله ـ الحزب الشّيوعي اللّبناني ـ الحزب القومي السّوري ـ المرابطون ـ الحزب الاشتراكي التقدّمي…)، كما سُجّل انضمام العنصر النّسائي إلى قائمة الاستشهاديين (سناء محيدلي ـ وفاء نور الدّين ـ ابتسام حرب ـ مريم خير الدّين…) وقد كان لهذه العمليّات صداها في الدّاخل الفلسطيني الذي تنمّر بدوره على الاحتلال الصّهيوني ممّا أدخل عليه الرّعب والهلع فارتفعت صُلبه أصوات جريئة مُطالبة بالانسحاب من لبنان…هذا العجز عن احتواء الأزمة وعن الوصول إلى الأطراف التي تمسك بخيوطها دفع بإسحاق رابين إلى التّعليق (يجب علينا أن نثبت ونقاتل ونتصدّى للإرهابيّين الذين يستخدمون أجسادهم كقنابل ناسفة، وإلاّ فسيتبعوننا إلى ما وراء الحدود)…وكان هذا ثاني المسامير في نعش حمّام الشطّ…

فشل مسار الانبطاح

  هذا الفشل العسكريّ الذّريع، عمّقه وكرّسَهُ فشلٌ آخر مواز له على الواجهة الدّبلوماسيّة التّفاوضيّة، ممّا أوقف قطار (التّسوية السّلمية العادلة لأزمة الشرق الأوسط) في أولى محطّاته واستبعد تصفية القضيّة على الشّاكلة الإسرائيليّة…فبتاريخ 7/08/1981 أطلق عرّاب اليهود الملك فهد بن عبد العزيز مشروعه للسّلام الذي يتضمّن ثماني نقاط أهمُّها وأخطرها على الإطلاق النّقطة السّابعة التي تنصُّ على (تأكيد حقّ دول المنطقة في العيش بسلام) في دعوة صريحة للاعتراف بدولة إسرائيل على أراضي 1948 وكسر حالة الحرب معها…وقد أُريد لهذه المبادرة المسمومة أن تُتوّج الأعمال العسكريّة التي انخرطت فيها إسرائيل ضدّ العرب والفلسطينيّين منذ السّتينات باعتراف رسمي من أصحاب الشّأن يشرعن وجودها ويحقّق لها الأمن والأمان…كما أُريد لياسر عرفات وزمرته الخيانيّة من العصابة الفتحاويّة أن تتبنّاها وتنخرط فيها وتُسوّق لها وتفرضها على منظّمة التّحرير وسائر الشّعب الفلسطيني…إلاّ أنّ المعارضة الصّلبة لصقور المنظّمات الفلسطينيّة وشرفاء الجناحين العسكري والسّياسي لمنظّمة التّحرير حالت دون ذلك، ممّا حدى بالقمّة العربيّة المنعقدة بفاس (نوفمبر 1982) إلى رفض مشروع فهد للسّلام، وقد برّر فاروق القدّومي ذلك الموقف بقوله (إنّ الظروف غير مناسبة لحلّ سلمي)…أي أنّ الشعب الفلسطيني لم (يستو) بعد، ومازال رافضًا بشكل قطعي للتّفريط في الأرض والمقدّسات، ناهيك وأنّ خيرة نُخَبِه السّياسية والعسكريّة تحرّضه على ذلك من مطبخ عمليّاتها بحمّام الشطّ…وكان ذلك ثالث المسامير في نعش الضّاحية الجنوبيّة…

عَوْدٌ على بَدءٍ

والأخطر من كلّ ذلك أنّ هذه التّجاذبات بين الصّقور والحمائم كادت أن تعيد خلط الأوراق في السّاحة اللّبنانيّة لصالح الجناح العسكري المتشدّد المناهض للحلّ السّلمي…فما إن فاحت رائحة مبادرة الملك فهد وانخراط عصابة عرفات فيها حتّى أعلنت القيادة العامّة لقوّات العاصفة ومجموعة من كوادر فتح في البقاع اللّبناني والمنظّمات الفلسطينيّة في سوريا عن انشقاقها تحت مسمّى (فتح الانتفاضة)…ورفضت الالتزام بالتّشكيلات العسكريّة الجديدة متّهمة عرفات وزمرته (بالخيانة الوطنيّة والتّنسيق مع الأردن وكيان يهود والسّير في نهج كامب دايفد والمتاجرة بدماء الشّعب الفلسطيني)…وقد رفع المنشقّون شعارات (المرجعيّة البديلة ـ منظّمة التّحرير الثوريّة…)مطالبين بتصعيد المواجهة ضدّ الخطّ العرفاتي وامتداداته من أجل تصحيح مسار الثّورة ولجم الاندفاعات الهوجاء نحو التّسوية « الإسرائيليّة »…وقد لقيت هذه المطالب تعاطفًا كبيرًا داخل حركة فتح وسائر الفصائل وقطاعات واسعة من المجتمع الفلسطيني…ومنذ جوان 1983 قرّر المنشقّون ـ مدعومين من النّظام السّوري ـ استخدام السّلاح لحسم الوضع، فحاصروا طرابلس وهاجموا (المخيّمات الرجعيّة) فيها وتصاعدت المواجهات الاشتباكات بينهم بتنسيق مباشر مع مطبخ العمليّات بحمّام الشطّ الذي يحرّكها ويخطّط لها ويدعمها بالكوادر العسكريّة، بما هدّد إسرائيل بالرّجوع إلى المربّع الأمني الأوّل ما قبل 1982…فكان هذا رابع المسامير في نعش الضّاحية الجنوبيّة…

آخر الطبّ (غارة)

إلى هذا الحدّ حزم القائمون على كيان يهود أمرهم وقرّروا تصفية القيادة المتشدّدة والكوادر العسكريّة الموالية لها عن طريق ضربة جويّة في حصنها المنيع ـ حمّام الشّط ـ للقضاء على محور الممانعة وإقصاء الخيار العسكري نهائيًّا من المعادلة الفلسطينيّة…وبدأت قيادة سلاح الجوّ الإسرائيلي بجمع صور للأقمار الصّناعية للموقع المستهدف والإعداد للتّنفيذ وذلك بالتنسيق مع عصابة عرفات والنّظام البورقيبي: فكان الدّور المنوط بعرفات هو التنسيق وإيجاد المبرّر لجمع العناصر المطلوبة كي يقع اصطيادها دفعة واحدة…من هذا المنطلق دعا عرفات القيادة العسكريّة لمنظّمة التحرير لعقد اجتماع في تونس بتاريخ 01/10/1985…أمّا دور النّظام البورقيبي فيتمثّل في فتح الأجواء التّونسية للعمليّة وضمان عدم تدخّل القوّات والدّفاعات الجويّة لا قبل ولا أثناء ولا بعد العمليّة…وبعد أن خَلا لها الجوّ حشدت إسرائيل لهذه العمليّة ثماني طائرات(F15)  مرفوقة بطائرة (بوينغ 707) للتزوّد بالوقود، وقد أقلع السّرب من وسط « إسرائيل » وقطع مسافة 3500 كلم التي تفصله عن الهدف في ستّ ساعات دون أن تكشفه رادارات أيّ دولة لا شمال المتوسّط ولا جنوبه ـ بما في ذلك القاعدة الأمريكيّة في إيطاليا ـ دون أن تتفطّن إليه دوريّات سفن الأسطول الأمريكي في المتوسّط…وإمعانًا في التحدّي خصّص كيان يهود حاملة مروحيّات متمركزة قرب مالطا لاستعادة الطّيارين في حال حدوث خلل، بما يشي بالتّواطؤ الدّولي والانخراط الإقليمي في تأمين هذه العمليّة…

بيت الطّاعة الإسرائيلي

بعد الاطمئنان على تجميع العناصر المطلوبة في مقرّات حمّام الشطّ، خرج عرفات يتمشّى على شاطئ البحر، وعلى السّاعة التّاسعة أبلغ مدير مكتبه العسكري بتأجيل الاجتماع بحجّة (عدم تمكّن بعض الضبّاط من الالتحاق) ثم اتّجه إلى مدينة رادس لتقديم التّعازي لعائلة وزير الدّفاع التونسي (عبد الله فرحات) الذي وافته المنيّة قبل يومين…وعلى السّاعة العاشرة تمامًا قصفت الطّائرات الإسرائيلية مقرّ قيادة الأركان الفلسطينيّة بستّة صواريخ فأزالته من الوجود، كما قصفت مقرّ عرفات ومكتبه والمسكن الخاصّ بحراسته مخلّفةً 68 قتيلاً (50 فلسطينيًّا و18 تونسيًّا) و100 جريح، أمّا الخسائر الماديّة فقد قدّرت بحوالي 8.5 ملايين دولار…وبالمحصّلة فقد حقّقت الغارة هدفها بامتياز: إذ من بين الشّهداء العسكريّين الفلسطينيّن الخمسين نجد عقيدين ورائدين وأربعة برتبة مقدّم من خيرة الكفاءات القتاليّة الفلسطينيّة، عدا عن سائر الرّتب العسكريّة الصّغيرة المتوسّطة…وبذلك سقطت البندقيّة الفلسطينيّة وأُقصي الخيار العسكري وفُتح الباب على مصراعيه أمام (سلام الشّجعان) ومسارات الانبطاح: فكانت قمّة الجزائر (1988) حيث تبنّت المنظّمة حلّ الدّولتين وتخلّت رسميًّا عن المقاومة المسلّحة، وتلاها مؤتمر مدريد الذي أعطى ضربة البداية لمسار من التّنازلات أنجب اتّفاق أوسلو (1993) واتّفاق غزّة ـ أريحا (1994) حيث تكرّس الاعتراف بالكيان الصّهيوني…ثم كرّت مسبحة التّنازلات (وادي عربة ـ واي ريفر ـ شرم الشّيخ ـ خارطة الطّريق ـ أنابوليس…) التي لم يقبض العرب من ورائها سوى الرّياح والأوهام…

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus (0 )