الفصل بين السلطات وعي زائف ونضال ضائع مهدور

الفصل بين السلطات وعي زائف ونضال ضائع مهدور

فصل السلطات، هو أحد العناوين المرفوعة اليوم في تونس، وتشهد تونس جدلا كبيرا بعد أن أعفى الرئيس أكثر من خمسين قاضيا، فاجتمع القضاة وهياكلهم كلّها فأعلنوا إضرابا عامّا في جميع المحاكم، والمشكلة عندهم أنّ الرئيس جمّع كلّ السلطات وصار القضاء سلطة غير مستقلّة، وأنّه ليس من حقّه إعفاء القضاء ولا التدخّل في السلطة القضائيّة.
إنّ الفصل بين السّلطات لم يكن إلا وهما من أوهام الدّيمقراطيّة التي تريد أن تزيّف وعي النّاس وتوهمهم بالاستقلاليّة.

إن من المعروف أنّ الديمقراطيّة نظريّا تنصُّ على وجوب ضمان فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية واستقلاليتها التامة عن بعضها البعض لأن اجتماعها في يد شخصٍ واحدٍ ينتج نظاماً ديكتاتورياً مستبداً. ويستدلّ الجميع بما تشهده بلادنا من تجميع الرئيس السلطات بين يديه بما يجسد الديكتاتورية في أوضح صورها، حيث يتكرس المزج بين السلطات بشكله البشع، فيتولى رأس الدولة الحكم بشكل مباشر، والتشريع بالمراسيم لتمرير ما يمليه عليه هواه من قوانين غير قابلة للنقض والإبطال. مما يجعل القضاء واقعا تحت سيطرة الرأي السياسي والحكم في القضايا الحساسة لن يكون بناءً على القرائن ورأي القانون، بقدر ما سيكون خاضعاً لاعتبارات سياسية وأهواء الرئيس، ومن ثم نعود إلى قضاء التعليمات حيث تُبَلَّغ الأحكامُ للقضاة عبر الهاتف، أو يخشى القاضي على عمله ومنصبه إن هو خالف هوى الرئيس أو أحد مراسيمه فيحكم بحسب ما يريده الرئيس وجماعته وتنحصر مهمة القضاة في تلاوة الأحكام في قاعات المحاكم.

ومن هنا انطلق القضاة ومن يساندهم في نضال للتّصدّي للرئيس وتكريس مبدأ الفصل بين السّلطات ليكون القاضي مستقلّا أو هكذا يظنّون، ويقول الجماعة أنّ ما يحصل في تونس هو بدعة مارقة عن الدّيمقراطية فلا مكان له في بلاد الغرب حيث الديمقراطية الحقيقة. فهناك لا يمكن تصور أن تتدخل السلطة التنفيذية للتأثير على القضاة ليحكموا وفق ما تشاء، وإن وقع ذلك، فهي الفضيحةٌ التي تطيح برؤوس فاعليها!

وعليه فقد انخرط الدّيمقراطيون في بلادنا في دفاع مستميت عن استقلاليّة القضاء والقضاة دفاعا عن الديمقراطية الجريحة ضدّ ديكتاتوريّة الرئيس.

أمّا الرئيس فيزعم أنّ الفساد عمّ في جهاز القضاء ولا بدّ من تطهيره من القضاة الفاسدين. ويزعم أنّ القضاة الذين تمّ إعفاؤهم هم من الفاسدين وأنّ هذه القائمة ما هي إلا قائمة أوليّة ستتلوها قوائم أخرى.

أساس الدّفاع والمقاومة عند القضاة هي الدّيمقراطيّة وفصل السّلطات.

فهل هو الأساس الصّحيح؟

من المعلوم أنّ القضاء هو الفصل في الخصومات سواء بين الناس فيما بينهم أو بين النّاس والدّولة (الممثّلة في الإدارة)

ولكن هل القضاء مستقلّ فعلا؟

المعلوم أنّ أقصى ما يستطيع أن يفعله القاضي هو أن يطبق القانون دون تَحَيُّزٍ لأي جهة، لكنه لا يستطيع أن يحكم بما يخالف القانون

والسّؤال هنا ماذا عن القوانين؟ ماذا عن مراسيم الرئيس سعيّد التي أخذت قوّة القوانين؟ هل يملك القضاة تحدّيها أو تغييرها؟

فالقضاة المضربون اليوم ومن يساندهم يريدون أن يكون الحكم للقانون وحده فإن كان القانون غير عادلٍ فالقضاة لا يملكون تغييره، بل ولا يملكون إلا أن يُطبِّقوه ويلزمون النّاس به. ومن يخالف تلك القوانين يتعرّض للعقوبة، ولو فرضنا وجود برلمان يُشرّع فإنّ الأغلبية البرلمانية هي التي تُصدر القوانين، فإن الفصل بين السلطتين التشريعية والقضائية لا يمكن تحقّقه، هذا هو ما عليه الأنظمة الدّيمقراطية التي إليها يستند القضاة. ويكتمل المزج بين السلطات الثلاث اكتمالاً تاماً، حيث تتمخض الأغلبية البرلمانية (السلطة التشريعية) عن تشكيلة الحكومة (السلطة التنفيذية) وتتحكم السلطة التشريعية في السلطة القضائية عن طريق سنِّ القوانين الملزمة للقضاة. هذا دون الحديث عن الحقوق التي تمنحها دساتير معظم الدول الديمقراطية للرئيس (السلطة التنفيذية) بإبداء حق النقض لمنع تطبيق قانون معين تم تبنيه من طرف السلطة التشريعية أو تأجيل تطبيقه، أو بإصدار عفو رئاسي في حق متهمين أدانهم القضاء. وهذه الحالات وإن كانت استثنائيةً، إلا أنها دليلٌ إضافيٌّ على وجود التداخل بين السلطات الثلاث في النظام الديمقراطي.
قد يقال: هذا تسطيح مبالغ فيه لنظام الحكم في الديمقراطية، والأمور ليست بهذه البساطة، فالأغلبية البرلمانية لا تتحكم في كل مقاليد الحكم كما ذكرت، والتصويت لا يتم على خلفيةٍ حزبيةٍ فقط، فقد تجد نائباً من الأكثرية البرلمانية يعارض مشروع قانون تقدمت به حكومته، وما يجري في بلاد الغرب من أزمات حكومية شبه دائمة أكبر دليل على عدم وجود هذه الانسيابية التي تتحدث عنها والتي تؤدي إلى التداخل الفاضح بين السلطات.

أقول: إن هذه الأزمات الحكومية إنما تحصل عندما تسفر نتائج الانتخابات عن توزيع متناثر لمقاعد البرلمان بحيث لا ينال أي حزب ما يسمى بالأغلبية « المريحة ». وفي هذه الحالة، تفقد الديمقراطية بوصفها حكم الشعب أو حكم الأكثرية صفتها، فتتحول إلى النقيض من ذلك تماماً، لأن الحاصل على الأغلبية النسبية والمكلف بتشكيل الحكومة يكون مضطراً لتلبية ابتزاز الأحزاب الصغيرة للدخول في حكومته، وتصبح هذه الأحزاب على رغم ضعفها وقلة تمثيليتها قطب الرحى وتتناسل المزايدات لإرضائها، فتنال أضعاف أضعاف حجمها الحقيقي. فإذا أفلحت المفاوضات وتكوَّنت هذه الحكومة، فإنها تكون حكومة فسيفسائية لا يجمع بين أقطابها إلا الحرص على البقاء في الحكم، وتكون هذه الحكومة مفتقدةً إلى خط ونظرة موحدة، وغالباً ما تكون ضعيفة، إما بسبب الصراعات الداخلية، أو بسبب ضعف سندها البرلماني فتنهار عند أول أزمة. أما إن أخفقت المفاوضات وفشلت الأغلبية النسبية في إرضاء الأطراف المختلفة لتشكيل الحكومة، فإن رأس الدولة يدعو إلى حلِّ البرلمان وإعادة الانتخابات أملاً في إعادة رسم خريطة توزيع المقاعد، وإيجاد أغلبية « مريحة ».

وهذا ما يُحاولونه في هذه الأيّام بتبديل الدستور وتبديل القانون الانتخابي، فإن تمّ هذا التبديل ونجح الرئيس ولجانه في الاستفتاء وصار لتونس دستور جديد وقانون انتخابي جديد ووُجدت هذه الأغلبية التي يسعون إليها، فقد تخفّ الأزمات الحكومية أو تنعدم، بوجود الأغلبية البرلمانية التي تسنّ ما تشاء من قوانين ومن ثم تعود إلى التحكم في كل دواليب الحكم. وإن أعطي الرئيس في الدّستور الجديد صلاحيات أوسع كما في أغلب دساتير الدول الغربية الديمقراطية التي تمنح السلطة التنفيذيّة (حكومة أو رئيسا) حق التشريع المباشر دون اللجوء إلى البرلمانات، أي حق التشريع والمرور مباشرة إلى التنفيذ دون الحاجة إلى موافقة البرلمان…
وقد يُقال هنا أنّ تشريع السّلطة التنفيذيّة هو فقط في الناحية الإجرائية، أي في الناحية العملية المتعلقة بكيفية تنفيذ القوانين التي وافق عليها البرلمان.

نقول: ولكن هذا لا ينفي أن الحكومة تُشَرِّع دون اللجوء إلى البرلمان، مما يعني أن للسلطة التنفيذيّة حقّ التششريع ولو في مسائل محدودة كما يزعمون الموضوع، ممّا يهدم وجود الاستقلالية بين الجهاز التنفيذي والتشريعي، وفي هذه الحالة لا يوجد أي فصل بل هناك تطابق تام. ثم إن تفاصيل التطبيق قد تكون أخطر أحياناً من القانون نفسه المراد تطبيقه، وكما يقال: « الشيطان يكمن في التفاصيل »، فإطلاق يد الحكومة في سن القوانين التفصيلية، دستورياً، دون الحاجة إلى إذن البرلمان أو بعيداً عن رقابته، بالإضافة إلى نسفه ما يسمى بالفصل بين السلطات، يجعل بإمكانها تكييف أو تطويع القانون الذي صوت عليه البرلمان لصالحها، أو على الأقل التخفيف من آثاره المزعجة بالنسبة لها، دون أن يستطيع أحد الاعتراض على ذلك.

وأين القضاة من كلّ هذا؟

لا يملك القاضي إلا انتظار إصدار القوانين ليحكم بها. فأين استقلاله؟ وكيف له أن يضمن العدالة ويحقّقها والقوانين يضعها بشر وحكومات بعد مساومات ومفاوضات لا تراعي إلا مصالح واضعيها ومصالح المموّلين الكبار للانتخابات أي مصالح اللوبيّات وهذا أمر شائع لا في البلاد المتخلّفة بل في البلاد المصدّرة للدّيمقراطيّة فأمريكا مثلا التي يهجد لها الدّيمقراطيّون في تونس بأنّها الحجّة والمثال والنّموذج تتحكّم في برلمانها بغرفتيه (الكونغرس والشيوخ) اللوبيّات، ويصدرون القوانين والتّشريعات التي تضمن مصالحهم ولا يملك قضاة أمريكا إلا اتّباعها.

فأين الفصل بين السلطات بل أين استقلال القضاء؟

فمن أجل ماذا يناضل القضاة في بلادنا؟ هل يناضلون من أجل تحقيق العدالة فأين هي العدالة في تشريع البشر؟ هل تحقيق العدالة تكون بقوانين يضعها برلمان أو حكومة خاضعة لسيطرة الأجانب؟

العدالة الحقيقيّة لا يُجسّدها إلا أحكام ربّ البشر ودولة تطبّقها دون الخضوع إلى سلطة أجنبيّة استعماريّة كما هي الحال اليوم في تونس

فالقضاة يرون رأي العين كيف توضع القوانين لا فرق بين عهد بورقيبة أو بن علي أو من جاء بعدهما فالجميع أخضع البلاد لسلطان الأجنبيّ. وكان القضاة يحكمون بتلك القوانين فهل كانوا مستقلين؟ بعد الثورة زعم الكثير أنّ القضاء استقلّ أو كاد وناضل القضاة وكان لهم كيانهم الخاصّ ولكنّ القوانين ظلت توضع بتأثير المستعمر مباشرة، وظلّت القوانين تظلم النّاس في تونس.

وعليه فإنّ النّضال المطلوب اليوم هو نضال من أجل العدل والعدالة ولن يتحقّق إلا بشرطين:

الأوّل: هو التّخلّص من سيطرة الأجنبيّ المستعمر الذي يتحكّم في مفاصل البلد في الرئاسة والحكومة والاقتصاد والتعليم وكلّ التنظيمات والتّشريعات، ولا يكون ذلك إلّا بالتّخلّص من خدّامه

الثّاني: وضع النّظام الذي يُحقّق العدل وهو نظام الإسلام موضع التّطبيق المباشر والفعلي، وحينها فقط سيكون حكم القضاة في محاكمهم عادلا لأنّه تطبيق لإرادة خالق البشر وأحكامه البيّنة الواضحة.

أ, محمد الناصر شويخة

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )