تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة: هذا ما تجنيه الأمة من دساتيرهم

تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة: هذا ما تجنيه الأمة من دساتيرهم

لئن عُرّف الدستور( أيّ دستور ) بأنه القانون الأساسي للدولة ( أيّة دولة )، أي هو القانون الذي يحدد السلطة بما هي رعاية المصالح، والإشراف عليها ( الحكومة )، ويحدد علاقاتها مع الأفراد ويبين حقوقها وواجباتها قبلهم وحقوقهم وواجباتهم قبلها، كان لابد لهذا الدستور أن ينبني على الفكرة الأساسية عن الحياة التي يؤمن بها مجموع الناس والتي تحدّد النظرة إلى المصالح التي تقوم السلطة بتسييرها.
إلا أنه حين تكون الدولة غير مبنية على الفكرة الأساسية التي يؤمن بها عموم الناس، ككلّ الدول القائمة اليوم في بلاد المسلمين، تضطرب علاقاتها بهم ولا يستقيم لها شأن ولا يستقر لها أمر وتغدو مطمعا لكل طامع بل وتتخلّى، تحت ضغوط الطامعين ومناوراتهم،عن أبسط مقومات السيادة بل ويطال الخطر سلطانها في وجوده .
ولعل المراقب الحصيف لا يجانب الصواب حين يعزو ما تعانيه البلاد التونسية من أزمات لاتكاد تنتهي، منذ أواسط القرن التاسع عشر، أي منذ أن بدأ حكامها لا يحدّدون حقوقهم وواجباتهم قبل رعاياهم وحقوق وواجبات الرعايا قبلهم على أساس الفكرة الأساسية عن الحياة التي يؤمن بها أهل البلاد، وهي العقيدة الإسلامية، تحت تأثير التدخل الخارجي للقناصل الأوروبيين في تونس وخاصة قنصلي إنجلترا وفرنسا، حين استطاع هؤلاء القناصل فرض ما سمّي حينها ب  » عهد الأمان  » إثر الجريمة التي ارتكبها أحد الرعايا اليهود والتي قضت فيها المحاكم الشرعية بما تقتضيه القوانين السيادية، إلا أنه كان للأسطول الفرنسي الذي أرسى في ميناء حلق الوادي وأسطول إنجلترا على سواحل مالطا رأي آخر وذلك لإرغام الباي على إصدار  » تعهد  » يحمي الرعايا الأوروبيين وأصحاب الديانات الأخرى ويضمن لهم محاكم مستقلة عن المحاكم الشرعية التونسية، المحاكم السيادية. وبعد انقضاء أسبوع من المشاورات تحت تهديد المدافع والأساطيل البحرية الفرنسية والإنجليزية قرر الباي ووزراءه و »علماء الدولة » بأن يستصدر قانون “عهد الأمان” الذي كانت أكثر فصوله ومواده مستمدة من مبادئ دستورية وتنظيمية أملاها قنصل فرنسا على الباي ». وإضافة على ذلك « حدد مجلسا للتجارة يتكون من مسلمين وغيرهم وينسق مع الدول (الأوروبية) المجاورة وحرر التجارة بين مختلف الرعايا والدول ورخّص للأجانب حرية الدخول والاستقرار والتجارة والملكية للعقارات والأراضي بسائر البلاد التونسية « .
هذا الخزي والصغار، والمتمثل في هذا التدخل الخارجي المذلّ للأعداء الطامعين، يتعامى عنه  » متثاقفو  » اليوم حين تلهج ألسنتهم وتجري أقلامهم فخرا بهذا  » العهد  » الذي شكل أول خيوط القيد الذي شرعت الدول الأوروبية تشدّه حول رقابنا للهيمنة علينا و على بلادنا هذا الجزء الطاهر من بلاد الإسلام، بل كان ذاك  » العهد » الأب الخبيث لدستور 21 جانفي 1861 الذي يتيه هؤلاء المتثاقفون فخرا على أضرابهم، في بلاد الإسلام، من المضبوعين بحضارة وثقافة المستعمر، والمستمرئين لقيوده حول معاصمهم وأغشيته على بصائرهم، كون تونس هي أول بلد يصدر دستورا في العالم العربي متعامين عن كون حاكمهم « المصلح « ، وتحت سمع وبصر بطانته  » النصوحة  » وعلمائه  » الفطاحل « ، الصادق باي قد دشن عهده، بعد موت أخيه الباي، بالسفر للجزائر لمقابلة امبراطور فرنسا نابليون الثالث سنة 1860 ليطلعه على مشروع، فخرهم هذا، الدستور الذي يعتزم استصداره لينال بركته ورضاه. نعم حاكم البلد المهدد بالإحتلال يسافر لمقابلة إمبراطور الدولة التي تحتل عمقه الحيوي ليحصل على مباركته لدستور أعد ليكون الأداة التي سيفقد بها كل مقومات سلطانه. بل نجد اليوم من يمعن في تضليل الناس بتمجيده. وهو ذات الدستور الذي اعتمد في تحديد العلاقة مع هذا المحتل للبلد بعد صدوره بأمد وجيز حين عمدت نخبة ذلك العهد إلى حصر العمل السياسي المتعلق بشأن البلد في علاقته بالمستعمر في الحزب الحر الدستوري الذي اتخذ من الدستور الذي باركه نابوليون الثالث أمبراطور فرنسا المستعمرة مرجع فكري في  » نضاله  » ضد المستعمر الفرنسي. وهو نفس الحزب الذي صادق مجلسه التأسيسي يوم 1جوان1959 على النسخة الجديدة من دستور يوغل في محاربة الفكرة الأساسية التي يؤمن بها عموم الناس،عقيدة لاإلاه إلا الله، بعدم جعلها الأساس الذي يحدد علاقة السلطة بهم، ويتخلى عن أغلب الأحكام الشرعية التي لايزال العمل بها حينها.
ورغم الهبّة الشعبية التي هزّت أركان النظام المفروض على جمهور الناس جرّاء الظلم والقهر الذي سلط عليهم إلا أن الإلتفاف على إرادتهم لازال أقوى، إذ استطاعت القوى الغربية المهيمنة على عالمنا الإسلامي أن تتدخل عن طريق منظماتها ومؤسساتها ورجالاتها كما تدخلت أواسط القرن التاسع عشر عن طريق قناصلها، وهو الأمر الذي لاينكره المتابع للحياة السياسية في بلادنا، للتحكم في مسار وضع أبواب وفصول دستور ما بعد ثورة الأمة مما يضمن هيمنتها على البلد ومقدراته وعلى مصائر الناس، وتنجح في مزيد إبعاد عقيدة الناس عن أن تكون القاعدة التي تحدد العلاقات بينهم ليتولى رئيس الدولة قائد السبسي كبر إصدار أمر إنشاء  » لجنة الحريات الفردية والمساواة  » للقضاء على ما تبقى من قوانين الأحوال الشخصية القائمة على الأحكام الشرعية، بناء على ما يجيزه لهم دستورهم هذا.
إلا أن ( …… ) تبلغ أوجها حين يعمد رأس الدولة إلى توظيف منصبه و مقدرات الدولة لهدم أسس العلاقات في المجتمع وتحطيم مسلمات الأمة خدمة لأعدائها وتواطؤا معهم لمّا خاطب أعضاء اللجنة يوم تسلّم تقريرها بقوله:  » لازم تعرفوا أنّا خارجيا كسبنا كسب موش موجود … توا يظهر في الأشهر القادمة … تونس هي محور الأحداث  » مقرا خطورة ما أقدم عليه حين أضاف قائلا: « لم أعطكم هدية لأن الأمر ليس سهلا  » ثم أردف  » ولو موش أنتوما ما ننجحشي فيها. ما يكفيشي الأفكار، يجب تجسيمها باش مانحطوشي بلادنا في محفور من أجل الأفكار هذية… ». هكذا مفتخرا ومجازفا باصطفافه مع من عمل على إقصاء شرع الله أن يعمل به، ظنا منهم أن الريح طابت لهم وأنها تنفخ في شراعهم، غافلين عن مكر القادر القهّار وهو القائل في محكم التنزيل: » فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  » (45)
إلا أن الذين سجدوا لهذا الدستور، فطاب لهم اليوم السجود في ناره واللعنات تترى من صدور المؤمنين حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، إلا أن يكون ذاك مرادهم وما خططوا له.وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227).

عبد الرؤوف العامري

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )