صفقة القرن, محطّة خيانيّة جديدة نحو تصفية القضيّة الفلسطينيّة

صفقة القرن, محطّة خيانيّة جديدة نحو تصفية القضيّة الفلسطينيّة

بتاريخ 28/01/2020 وفي لقاء جمعه بنتنياهو في واشنطن أعلن الرّئيس الأمريكي دونالد ترامب عن الشق السياسي لخطّة السلام الأمريكيّة في الشرق الأوسط المسمّاة (صفقة القرن) كاشفًا عن كيان كسيح يصعب تصنيفه قانونيًّا: وهم دولة في شكل مجموعة من الجزر الأرضيّة المفكّكة وغير المتّصلة جغرافيًّا شبيهة بمعازل السّود في جنوب إفريقيا فاقدة لأدنى مستوى من السّيادة والسّلطان منزوعة المخالب والمقدّسات ومحفوفة بجملة من الشروط المفتوحة على حمّام دم وحرب أهليّة بين مكوّنات الشعب الفلسطيني..وكان من الواضح أنّ هذه (الصّفعة) قد حُبّرت بمداد اليمين الصّهيوني المتطرّف وأنّها وصفة (ضربة ضربة) لتصفية القضيّة الفلسطينية عبر القفز على جميع قضايا الحل النّهائي كالقدس واللاّجئين والمقدّسات والحدود وحق العودة والمستوطنات..في شبه استسلام قسري غير مشروط ممزوج بالإذلال والتّشفّي..

قسمة ضيزى

هذا إجمالاً، أمّا تفاصيل هذه الصّفقة التي اعتبرها صاحبها (فرصة لا تعوّض وقسمة عادلة ومنصفة للطّرفين) فقد جرّدت أصحاب الأرض من كلّ حقوقهم وممتلكاتهم ومكّنت اليهود من رقاب كلّ شيء: القدس والمقدّسات الإسلاميّة والمستوطنات ونابلس وما حولها وأغوار الأردن وملحقاتها والمياه الإقليميّة ونهر الأردن وخطوط النّقل الرّابطة بين الضفّة والقطاع بينما يجري دمج اللاّجئين في مهاجرهم أو في بعض الدول الإسلاميّة..أمّا ما بقي من فتات أراضي الضفة ومن عليها من السكّان فإنّ الاعتراف به كدولة مشروط بإقرارهم بيهوديّة إسرائيل وأن يُفكّك ويُسلّم سلاح التنظيمات الإسلاميّة (حماس والجهاد) وألاّ يشكّل خطرًا على الأمن القومي الإسرائيلي..كما تمنع هذه الصفقة على السلطة الفلسطينيّة الدّخول في أيّ منظّمة دوليّة دون إذن إسرائيل وتحظر عليها رفع أي قضيّة ضدّ الولايات المتّحدة وإسرائيل أو مقاضاة مواطنيها خارج إطار نُظُمها القضائيّة، وتحظر عليها أيضًا تقديم أي شكل من أشكال الدّعم لعائلات الأسرى والشهداء الفلسطينيّين..وتمتدّ تأثيرات هذه الصّفقة لتشمل الشرق الأوسط ككلّ فيما يتعلّق بتطبيع العلاقات مع إسرائيل و تحويل العداء تجاه إيران..والأغرب من هذا وذاك أنّ ما أعطته الصفقة لكيان يهود ثابت ونافذ المفعول حالاًّ، بينما ما أعطته للفلسطينيّين يبقى مرهونًا بالمباحثات والمفاوضات بين الطّرفين، بحيث أن هذه الصفقة لم تعط ـ عمليًّا ـ أيّ شيء لأصحاب الأرض والحق ولا حتى مجرّد وعود..وحسبنا فيما يلي أن نموقع هذا المآل المخزي ضمن مسار التصفية للقضية الفلسطينيّة وأن نستشرف إمكانيّات تحقّقه على أرض الواقع بالنظر إلى الهواجس الأمنية الإسرائيلية..

المأزق « الإسرائيلي« 

إن مشكلة كيان يهود ليست في الوجود ـ فهذا متيسر وقد تحقق فعلا سنة 1948 ـ ولكن المأزق الإسرائيلي الفعلي يتمثل في الثبات والاستمرار والديمومة: فالاستعمار إذا بقي جسما غريبا منبوذا لا يعترف به أصحاب الأرض فإن مصيره لا محالة إلى زوال مهما طال مكوثه ،إذ لا يمكن أن يستقر له في الأرض قرار إذا حافظ على صفته تلك ـ غازيا معتديا ـ بل يظل في صراع مرير مع أهلها وحروب طاحنة متواصلة فلا يتمكن من الانتفاع إلى أن يطرد إلى حيث جاء ولو استوطن المنطقة أجيالا متعاقبة ،ودونك الصّليبيون في المشرق..هذا الدرس التاريخي السياسي لم يكن ليغيب عن دهاقنة الامبريالية والصهيونية الذين فطنوا إلى أن المشروع الصهيوني على أرض فلسطين إذا تحقق بالحديد والنار فإن مآله الفشل الذّريع لأن المهم ليس اغتصاب الأرض بل الاستقرار فيها وخلق أجواء أمنية ملائمة للنهب والتهويد، وإن الطريق الوحيدة لتحقيق ذلك هو أن تهضمهم المنطقة ويسلّم أهلها بهذا الاغتصاب ويزكّوه ويرضوا به.. من هذه الزاوية بالذات يجب النظر إلى تاريخية الصراع العربي ـ الصهيوني، زاوية ترويض الشعب الفلسطيني وتدجين الأمة الإسلامية وإجبارهم على قبول ذاك الورم السرطاني المزروع في أرض المسرى والمعراج واقتلاع الاعتراف الصريح به من أفواههم باعتماد غطرسة القوة والأرض المحروقة المدعومة خارجيا بالشرعية الدولية العرجاء والمُزكّاة داخليا من طرف السماسرة والعملاء لتمرير الطبخات السياسية والعسكرية وشرعنتها وتسهيل هضمها ،وإن مجمل الحراك بين اليهود والعرب ـ مجتمعين أو منفصلين ـ طيلة العقود السبعة المنصرمة يتنزل بالضرورة في هذا الإطار..

مسار الانحسار

وعلى هذا الأساس فإن قرار التقسيم وتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين سنة 1948 لا يساوي المداد الذي حبر به، لأن الأهم منه هو إمكانية تطبيقه على أرض الواقع أي انتزاع اعتراف أصحاب الشأن بشرعية ذلك الكيان كي يتحقق هاجس الأمن والأمان والاستقرار.. من هذا المنطلق فإنّ كلّ الخطوات التي تلت قرار الولادة القيصريّة كانت تصبّ في هذا الاتّجاه: وأولاها بتر القضيّة الفلسطينيّة عن عمقها الإسلامي عبر مسار من الانحسار والتّضييق لتناسب اللّقمة أفواه اليهود: فقد تدحرجوا بها من المربّع الإسلامي إلى المربّع القومي العربي بعد سقوط الدّولة العثمانيّة، ثمّ إلى المربّع الإقليمي مُمثّلا في دول الطّوق بعد معاهدة (كامب دايفد)، ومنه إلى المربّع الوطني مع نشوء منظّمة التّحرير الفلسطينيّة سنة 1965 لتصبح قضيّة الشّعب الفلسطيني مُمثّلاً في شخص (زعيمه) ياسر عرفات الذي حوّلها بدوره إلى مجرّد (أزمة سكن) داخل كيان يهود باختزالها في مفاوضات حول أحياء داخل القدس الشّرقيّة وبعض المعابر والطّرق الالتفافيّة..

التيئيس العسكريّ

ثاني هذه الخطوات إشاعة أجواء اليأس والإحباط وتثبيط العزائم عن طريق إبراز إسرائيل في مظهر القوّة السّاحقة والقضاء المُبرم، فلا مهرب منه ولا قدرة على مواجهته ـ لا فلسطينيًّا فحسب بل عربيًّا وإسلاميًّا ـ ، وذلك لكسر شوكة الأمّة وتبرير تنازلات الحكّام وخياناتهم: فقد انخرطت الدّول العربيّة في مسرحيّات عسكريّة سيّئة الإخراج مع كيان يهود سنوات (1948 ـ 1956 ـ 1967 ـ 1973 ـ 1982).. ورغم أنّها خاضت أغلبها متّحدةً في 6 أو 7 جيوش، إلاّ أنّها تعمّدت الانهزام في كلّ واحدة منها شرّ هزيمة ممّا نفخ في صورة إسرائيل..ومن المهازل أنّ كلّ حرب كانت تجرّ وراءها تنازلات أفظع من أختها (ضمّ غزّة ـ انفصال الضفّة ـ احتلال سيناء ـ ضمّ الجولان..)، هذا التّنطع الإسرائيلي والخذلان العربي كانت له عواقب وخيمة: فقد أثمر دوليًّا القرار الأُمميّ 242 كأوّل اعتراف رسمي بكيان يهود على أراضي 1948، وأثمر عربيًّا معاهدة (كامب دايفد) التي حيّدت مصر مركز ثقل الأمّة وصدّعت الصّف العربي ودعّمت شرعيّة إسرائيل ومكّنتها من الاستفراد بالفلسطينيّين.. وقد رُكّزت هذه المكاسب فيما بعد بصدور القرارين الأُمميّين (338 ـ 339) اللّذين نصّا بشكل سافر أنّ (الكيان الصّهيوني) هو دولة إسرائيل القائمة على أراضي 1948 وأنّ أقصى ما يطمح إليه العرب هو أن تتكرّم وتنسحب ممّا احتلّتهُ في 1967 مقابل العيش معها في أمن وسلام..

بيت الطّاعة « الإسرائيلي« 

هذا الخذلان العربي المُخزي والتّواطؤ الدّولي السّافر الذي بان عُواره لاسيما بعد مذابح صبرا وشتيلا الرّهيبة، رفع الحرج عن منظّمة التّحرير الفلسطينيّة وفتح الباب على مصراعيه أمام (سلام الشّجعان) ومسارات الانبطاح: فقد أخذ الاعتراف بكيان يهود شكل الاتّفاقات الثّنائيّة العلنيّة وزالت الحاجة للتّضليل عبر الأمم المتّحدة..فكانت قمّة الجزائر(1988) حيث تبنّت المنظّمة حلّ الدّولتين وتخلّت عن المقاومة المسلّحة، وتلاهُ مؤتمر مدريد (1989) الذي جمع دول الطّوق بكيان يهود في مفاوضات علنيّة وأعطى ضربة البداية لمسار من التّنازلات أنجب اتّفاق (أوسلو) 1993 واتّفاق (غزّة ـ أريحا) 1994 حيث تكرّس الاعتراف بالكيان العبري على أرض المسرى والمعراج.. ثمّ كرّت مسبحة التنازلات (وادي عربة ـ واي ريفر ـ شرم الشّيخ ـ خارطة الطّريق ـ أنابوليس..) التي لم يقبض العرب من ورائها سوى الرّياح والأوهام في مقابل تعنّت اليهود وصلفهم سواء على طاولة المفاوضات (الابتزاز ـ التّدويخ ـ الإفراغ ـ الالتفاف..) أو على الميدان (مجازر ـ هدم ـ تهجير ـ استيطان ـ غلق معابر ـ حواجز ـ جدران..).. وهي ممارسات قابلها النّظام الرّسمي العربي في مفارقة عجيبة بتوسيع الاعتراف بإسرائيل ليشمل سائر الدّول العربيّة بعد قمّة بيروت 2002..

توريط الإسلاميّين

إلاّ أنّ هاجس الشّرعيّة والأمن مازال يؤرّق اليهود وحلفاءهم: فما انتُزِع إلى حدّ الآن لا يعدو أن يكون اعترافًا شكليًّا محسوبًا على الأنظمة العلمانيّة المُنصّبة على رقاب العرب، وهذا لا يُلبّي احتياجات « إسرائيل » الأمنيّة، لأنّه حبرٌ على ورق: فالعمق الشّعبي الإسلامي مازال رافضًا لاسيما مع تمادي المستوطنين في غطرستهم..لذلك يجب العمل على انتزاع الاعتراف من أفواه الإسلاميّين أصحاب الحق الشّرعيين حتّى يكتسب مصداقيّة ويكون قابلاً للتجسّد على أرض الواقع خاصّةً وقد فقدت فتح مصداقيّتها وافتضحت عمالتها ولم تعد مؤهّلة للتّنازل باسم الفلسطينيّين فضلاً عن العرب والمسلمين..من هذا المنطلق سعى اليهود وحلفاؤهم إلى توريط آخر قلاع الصّمود والنّزاهة أي الحركات الإسلاميّة ـ وأكثرها شعبيّة حماس ـ ودمجها في العمليّة السّياسية لتصبح طرفًا في السّلطة القائمة على اتّفاقات أوسلو وترث عنها كلّ تنازلاتها وتنتهي إلى ما انتهت إليه فتح من التّدرج في الاعتراف بإسرائيل وترويض أتباعها.. على هذا الأساس طُهِّرت حماس في مرحلة أولى من صقورها (الشّيخ ياسين ـ الرّنتيسي..) ثمّ سُمِح لها بضوء أخضر أمريكي/إسرائيلي بخوض انتخابات 2006، واثر نجاحها الكاسح اكتسبت شرعيّة دستوريّة تُؤهّلها للدّور المنتظر..وبعد أن ذاقت لذّة الحكم وبريق الأوسمة والنّياشين شُدِّد حولها الخناق وجُرّت إلى التّفاوض على وقع الحروب المُدمّرة المُتعاقبة على قطاع غزّة حتّى ترضخ وتُذعن وينتزعوا منها صراحةً وعلنًا الاعتراف الثّمين بكيان يهود والتّفريط في المقدّسات والحقوق..وقد تحقّق ذلك سنة 2017 مع (وثيقة حماس) التي تنصّلت فيها الحركة من مرجعيّتها الإسلاميّة وتبرّأت من (تهم) التطرّف واللاساميّة ورضيت بالعمل تحت مظلّة فتح وقبلت بدويلة على أراضي 1967 في اعتراف ضمني بكيان يهود على أراضي 1948..

الإحباط السياسيّ

كيف تُفهم صفقة القرن في سياق هذا التمشّي من الضغط والابتزاز وما محلّها من مسار التّصفية الإسرائيلية..؟؟ إنّ التنازلالت والخيانات التي انخرطت فيها حماس ألحقتها في أعين الفلسطينيّين بحركة فتح وأفقدتها بالتالي مصداقيّتها وأهليّتها لتمثيل الشعب وسائر العرب والمسلمين في الصّراع مع كيان يهود..إلاّ أنّها لم تجرّد الإسلام والإسلاميّين من القوامة على فلسطين ومقدّساتها، بل جرّدت حماس من الصفة الإسلاميّة وبقي الإسلاميّون معقد آمال الشعب الفلسطيني والأمّة الإسلاميّة في استعادة الأقصى وتطهير أولى القبلتين من دنس يهود..وبالتالي وجدت إسرائيل نفسها في المربّع الأوّل لهواجسها الأمنيّة: فكلّ المناورات العسكريّة التي قامت بها مع صنائعها وأزلامها لم يُثبّط همم المسلمين ولم يقتل فيهم الأمل في تحرير فلسطين لذلك يجب الانتقال إلى الإحباط السياسي أي إطفاء جذوة الأمل والثقة في نبع الخيرية الإسلاميّة الدفّاق في الأمّة، فكانت هذه الحركة البلطجيّة التي أقدم عليها ترامب: هروب إلى الأمام فيه إجحاف فظيع وتجاوز واضح للقرارات الأمميّة وانقلاب على الاتّفاقيّات المبرمة مع منظّمة التحرير وقطع مع منطق التفاوض لصالح الفرض والإملاء الأحادي الجانب (واشرب ولاّ طيّر قرنك)..وممّا أشاع أجواء التّيئيس والإحباط مواقف المسؤولين والسّاسة العرب وفقهاء السلاطين لاسيما في مصر والسعوديّة ودول الخليج الذين تبنّوا موقف ترامب وهاجموا الشعب الفلسطيني وأدلوا بتصريحات مخزية تقطع الأمل من الأمّة.. وقد عبّر ترامب عن ذلك في خطابه بقوله: إنّ 55 حاكمًا في بلاد المسلمين متفاهمون معه وإنّ الخلافة التي يعقد المسلمون عليها الآمال قد ماتت..رسالة سياسيّة يهوديّة صليبيّة فحواها(لقد جرّدناكم من كلّ شيء ولم يقدر أحد على منعنا بل إنّ حكّامكم وساستكم ومثقّفيكم وفقهاءكم ساندونا ونحوا عليكم باللاّئمة فهل مازلتم متمسّكين بفلسطين واثقين بالنصر..؟؟)..

أبو ذرّ التونسيّ (بسّام فرحات)

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )