في الأساطير المؤسّسة للنّعرة الأمازيغيّة البربريّة

في الأساطير المؤسّسة للنّعرة الأمازيغيّة البربريّة

إنّ الأطروحة المركزيّة للفكر الاستعماريّ الفرنسيّ والأسس النظريّة العامّة التي قامت عليها مدرسته التاريخيّة تتمثّل في فكّ الارتباط بين البربر وعمقهم المشرقيّ العربيّ ـ عرقا وثقافة ولغة وعقيدة ـ كمقدّمة نحو طمس هويّتهم وإلحاقهم بفرنسا..ولتحقيق ذلك انتهج الاستعمار ما أسماه (السّياسة البربريّة) القائمة أساسا على زرع التّفرقة بين السكّان المغاربيّين وتقسيمهم على أساس عرقيّ جنسيّ إلى بربر وعرب نافيا أيّة صلة بينهما مؤكّدا على أنّ العرب المسلمين دخلاء محتلّون وأنّ البربر المسيحيّين ضحايا مضطهدون.. بعد تركيز هذه المسلّمة غير القابلة استعماريّا للنّقاش انخرط عبر مدرسته التاريخيّة في تزويدها بمدعّماتها و(أكسسواراتها) :فادّعى بأنّ البربر جنس موحّد محلّي غير ساميّ تربطه وشائج حميمة بأوروبا ،وأنّ لهجته (الشّلحة) لغة قائمة الذّات موحّدة محليّة مفصولة عن عائلة اللغات السّاميّة لفظا ورسما.. إلاّ أنّ الأبحاث التاريخيّة والأركيولوجيّة والأنثروبولوجيّة واللّسانيّة أثبتت كلّها بما لا يدع مجالا للشكّ تهافت الأطروحات الاستعماريّة وترسيخ البربر ـ عرقا وحضارة وثقافة ـ في محيطهم السّامي المشرقيّ العربيّ القديم ،ممّا حدا بأحد أقطاب منظّري المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة (روني باسي) إلى الاعتراف في كتابه (البربر)ص 151 (لا أعتقد في إمكانيّة إحياء حضارة بربريّة هذه الحضارة التي لم تهتمّ بها النّخبة البربريّة نفسها مطلقا :فمنذ القرن 19م سُجّلت استفاقات للعديد من الشّعوب لكنّ شيئا من هذا لم يحصل عند البربر الذين يخجلون أحيانا من هذا الانتماء)..هذه الصّفعة المسفّهة لأحلام المضلّلين من ذوي النّزعة الانفصاليّة الأمازيغيّة لم تثن مؤرّخيّ الاستعمار عن تجاوز ما نطقت به شواهد التّاريخ صراحة نحو تأويل الأحداث التاريخيّة وتحميلها أضغانهم الاستعماريّة الصليبيّة..

أسطورة الصّراع التاريخيّ

ثالث الأرحام التي اعتملت فيها النّعرة الأمازيغيّة البربريّة ـ بعد العرق والثّقافة ـ تاريخيّة بالأساس وظيفتها إضفاء مصداقيّة عمليّة ميدانيّة تسند المصداقيّة العلميّة التي ادّعتها المدرسة الاستعماريّة لأبحاثها المغرضة وخلعتها على سائر افتراءاتها.. فممّا لا شكّ فيه أنّ وضع اليد على الجغرافيا بادّعاء المغايرة والعداء والأحقيّة والتميّز عن العرب والمسلمين ـ عرقا ولغة وثقافة ومعتقدات ـ لا يكتمل ولا يكتسب مشروعيّة ترقى به إلى مستوى الحقائق إلاّ بالحجر على التّاريخ وإجبار أحداثه على المصادقة عليه عبر التعسّف على الحوادث التاريخيّة وليّ أعناقها واستنطاقها عنوة بالعداء الدمويّ بين الجنسين بما يبرّر فصل المغرب العربيّ عن المشرق الإسلاميّ ودمجه بالكيان الفرنسيّ.. على هذا الأساس سعت المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة إلى البرهنة على الصّراع العربيّ/البربريّ المفترض وإثبات صفة الدّيمومة والتّواصل والاسترسال له وإسباغ الطّابع القوميّ الدينيّ المعادي للعروبة والإسلام عليه..فتسلّطت على تاريخ المنطقة ونقضته وشوّهته وحرّفت حقائقه وطمست إيجابيّاته وضخّمت سلبيّاته ووضعتها تحت مجهر حقدها الصليبيّ وفسّرت مناكفاته البسيطة بأنّها (صراعات دمويّة تعبّر عن ذاتيّة البربر ونزوعهم القومي ورفضهم للإسلام)..ثمّ أخذت في نسج ملامح ما أسمته (المقاومة البربريّة والثّورات البربريّة ضدّ الاحتلال العربيّ الإسلاميّ) فأسقطت هذه الدّعاوى الثوريّة الفجّة والأوهام الاستعماريّة المريضة على انتفاضة (كسيلة) ـ وهي مجرّد ردّ فعل على إهانة عقبة بن نافع له ـ وانتفاضة (الكاهنة) ـ وهي تمظهر طبيعيّ لغريزة البقاء بالدّفاع عن النّفس ـ وكلتاهما لا تعكسان عداء قوميّا عقائديّا البتّة..أمّا أهمّ حدث استندت إليه تلك المدرسة الاستعماريّة لإثبات ادّعاءاتها وافتراءاتها فهي الثّورات الخوارجيّة التي اندلعت ببلاد المغرب في عهد ولاة بني أميّة :فقد عدّتها دليلا على النّزوع القومي العقائديّ لدى البربر ورغبتهم في الاستقلال والتحرّر الوطنيّ من ربقة العرب المسلمين وبنت عليها مشروعها الانفصالي الإلحاقي الادماجي المستهدف للبربر ثقافة وعقيدة وهويّة وانتماء..

ثورة أم انتفاضة..؟؟

ولئن ركبت المدرسة الاستعماريّة شواهد التّاريخ لتأكيد مغالطاتها فإنّها تعاملت مع تلك الشّواهد بانتقائيّة وبخلفيّة مغرضة :فقد انطلقت من الانتفاضة الخوارجيّة التي شهدتها إفريقيّة إبّان القرن 08م وزيّفت حقائقها وشوّهتها وضخّمتها وجعلت منها ثورة على الدّين الإسلاميّ والجنس العربيّ، ثمّ عمّمت ذلك على السّيرورة التاريخيّة لعلاقة البربر بالدّولة الإسلاميّة المركزيّة.. ونحن وإن كنّا لا ننكر تلك الحوادث التاريخيّة الثّابتة التي تلبّس فيها البربر الخوارج بشقّ عصا الطّاعة على الدّولة الأمويّة ،ولكنّنا ننكر قراءة المدرسة الاستعماريّة المغرضة لها والحجم الذي أعطته لها بحيث أضفت عليها بعدا قوميّا دينيّا ذا روح تمرّدية انفصاليّة معادية للعروبة والإسلام..

وبالرّجوع إلى تلك الوقائع نلمس دون عناء أنّ ما أسمته فرنسا (ثورة) ما هو في الواقع إلاّ مجرّد انتفاضة ضدّ مظالم ولاة بني أميّة وعمّالهم :فالبربر لم يكونوا راغبين في العصيان ولا مبادرين به ،وكانوا قابلين بالسّلطة المركزيّة خاضعين لها وقد وصفهم الطبريّ في تاريخه بقوله (فمازالوا من أسمع أهل البلدان وأطوعهم ومن أحسن الأمم إسلاما وطاعة)..وكان هذا دأبهم مع الولاة الصّالحين التّقاة الذين نهجوا سياسة الرّفق واللّين لاستمالة البربر إلى الإسلام على غرار (أبي المهاجر دينار وحسّان ابن النّعمان وإسماعيل ابن عبيد الله..) ثمّ مع الخليفة الرّاشد عمر ابن عبد العزيز (رض)..أمّا فيما عدا ذلك فلم ير البربر من ولاة بني أميّة إلاّ الشدّة والعنت حيث ساموهم ألوان المذلّة والمهانة فاضطهدوهم ونهبوا أموالهم واستعبدوهم ونكّلوا بهم واعتبروهم فيئا وقدّموهم في القتال وحرموهم من الغنائم ،ووصلت بهم الجرأة أن ضربوا عليهم الجزية وسبوا نساءهم وهم مسلمون..ورغم كلّ ذلك فضّل البربر التريّث وعدم الانسياق وراء دعاة الثّورة وخيّروا إرسال وفد إلى دمشق لمقابلة الخليفة والتشكّي من عسف الولاة والعمّال ،لكن وقعت مماطلتهم ومنعوا من مقابلة الخليفة عندئذ تأكّد لديهم أنّ الظلم من أعلى هرم السّلطة فقرّروا شقّ عصا الطّاعة على (أيمّة الجور)..وحتّى عند خروجهم على الحكم المركزي فإنّ انتفاضتهم تلك كانت ظرفيّة مناسباتيّة محدودة في الزّمان والمكان وسرعان ما انطفأت بانتفاء مسبّباتها وملابساتها ،فلم تكن ثورة انفصاليّة عن الحكم المركزي بقدر ما كانت انتفاضة على ظلم الولاة والعمّال وعسفهم..

أسطورة الردّة البربرية

لم تكتف المدرسة التاريخية الاستعمارية بتضخيم حجم الانتفاضة البربرية وتحويلها إلى أصل وقاعدة في علاقة البربر بالدولة الإسلامية، بل أسبغت عليها روحًا عقائدية واعتبرتها (ردّة بربرية عن الإسلام): وبالرّجوع إلى تلك الحوادث نلمس دون عناء أنّها لا تعكس البتّة رغبة في الخروج عن الإسلام والتحلّل من شرائعه وأحكامه ـ بل على العكس تمامًا ـ فهي انتفاضة باسم الإسلام ومن داخل العقيدة الإسلامية نفسها..فقد ارتمى البربر في أحضان المذهب الخارجي للتعبير عن رفضهم للظلم لما يتميّز به أتباع هذا المذهب من الصدع بالحق ومناكفة الحكّام الظلمة، كما أنّه مذهب يقوم على درجة عالية من النقاوة والمثاليّة المفرطة التي تلامس حدود التنطّع والغلوّ في الدّين حتى عدّوا مرتكب الصّغيرة كافرًا…وكانوا أبعد الناس عن الموبقات والمعاصي والمحارم، وصفهم معاصروهم فقالوا (خلطوا قيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن..) ولمّا قدم عليهم عبد الله ابن العبّاس (رض) لمناقشتهم (رأى منهم جباهًا قرحة لطول السّجود)..

فالأفكار التي أثّثت انتفاضة البربر هي أفكار إسلاميّة بحتة، فقد تولّى الفكر الخارجي الصّفري والإباضي الصّياغة النّظرية لانتفاضتهم وردّة فعلهم المشروعة على (أيمّة الجور).. وممّا يؤكّد ذلك أنّهم تبنّوا المذهب الخارجي ولم يكونوا في معاركهم يُفصحون عن بربريّتهم أو مجوسيّتهم بل كانوا يتشبّهون بخوارج المشرق ويتأسّون بهم، فكانوا يحلقون رؤوسهم اقتداءً بالأزارقة وأهل النهروان، كما كانوا يرفعون الشعارات الخوارجيّة، وكانوا أيضًا على صلة بإخوانهم الإباضيّة بالمشرق يستشيرونهم ويحتكمون إليهم ويستفتونهم في مسائل فقهية وسياسية ويدينون لهم بالولاء..فانتفاضتهم كانت مذهبيّة على أساس أفكار إسلاميّة غيرة على الدّين ورغبة في إحسان تطبيقه لذلك فإنّها لم تفصلهم عن الإسلام بقدر ما زادت في تعميق الارتباط العقائديّ والثقافيّ بينهم وبين العرب المسلمين..هذا التلبّس بالإسلام من طرف البربر أثار اندهاش الأوروبيين، وقد علّق الدكتور (جورج مارسي) بقوله (ففي أقل من قرن واحد اعتنق البربر الإسلام في حماسة تجعلهم راغبين في اغتنام الشهادة..وبينما كانت معظم البلاد المفتوحة تحتفظ بطوائف مسيحيّة إلا أنّ وطن سان أوغسطينوس عمّ الإسلام أهله تمامًا)..

أسطورة القوميّة الشعوبيّة

وينسل من الفرية السّالفة (الردّة البربريّة) فرية أخرى أظهر تهافتًا منها: فمن مقتضيات الردّة وجود النّزعة العرقيّة القوميّة الشعوبيّة، لذلك فقد رأت المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة في الانتفاضة الخوارجيّة منزعًا قوميًّا عنصريًّا شعوبيًّا من البربر تجاه العرب…وفي الحقيقة فإنّ تلك الانتفاضة كانت خالية من المشاعر القومية البربرية ولم تكن البتّة لأسباب عرقيّة بين جنسين متعاديّين، بل كانت كما أسلفنا مجرّد ردّة فعل على ما سُلّط عليهم من مظالم من طرف ولاة وعمّال بني أميّة..فلم تظهر في البربر عبر تاريخهم الإسلاميّ تلك النزعة الشعوبيّة القائمة على معاداة العرب وكراهيّتهم كالتي ظهرت عند الفرس المجوس: فهؤلاء جاهروا بالطّعن في العنصر العربيّ والتباهيّ بالعنصر الفارسيّ وألّفوا الكتب في مثالب العرب وكلّ ما يحقّر من شأنهم (لصوص العرب ـ بغايا قريش ـ مثالب ربيعة ـ مثالب قريش..) كما استنقصوا من مزايا العرب وطعنوا فيها (الجود والكرم ـ البلاغة ـ الخطابة ـ الشعر ـ الفروسيّة).. وكان للعرب عطف خاص على البربر وشعور مميّز تجاههم لما يجمع بين الجنسين من نقاط تشابه في الطباع والعادات ونمط الحياة البدويّ القبليّ الترحاليّ الرّعويّ، وصفهم موسى بن نصير بقوله (هم يا أمير المؤمنين أشبه العجم بالعرب لقاءً ونجدةً وفروسيّة وشهامةً وسماحة).. ولم يكن العرب يحتقرونهم أو يستنكفون عن مصاهرتهم حتى أن صقر قريش عبد الرحمان الداخل مجدّد الدولة الأموية بالأندلس أمّه جارية بربريّة (سلاّمة) من قبيلة نفزة..بل إن فصائل عربيّة عديدة قد تبربرت بحكم المصاهرة والاختلاط (بلاد الجريد ـ وادي سوف ـ وادي مزاب) ممّا أثار استغراب واندهاش الأوروبيّين أنفسهم.. وقد بادل البربر العرب نفس هذا الشعور: فمشاهيرهم وكبار قادتهم عوض الافتخار بعنصرهم البربريّ كانوا يبحثون لأنفسهم عن أنساب عربيّة وكانوا يعلنون ـ إن حقًّا أو باطلاً ـ انتماءهم إلى العرب وانتسابهم إلى آل البيت ويعدّون ذلك مفخرة لهم..كما أن الدّويلات البربريّة التي نشأت في بلاد المغرب (بنو عبد الواد ـ بنو زيّان ـ بنو مرين ـ بنو حمّاد ـ المرابطون ـ الموحّدون ـ بنو حفص..) لم تقم أيّة واحدة منها على العصبيّة البربريّة ولم تصدر عنها في مشروعها السياسيّ..وممّا يلفت الانتباه ويثير الاستغراب والدّهشة أن البربر سواء في دويلاتهم التي أسّسوها أو الفرق الخارجية والشيعية التي انتسبوا إليها قد التفّوا حول العناصر العربيّة وقدّموها على العناصر البربرية ووضعوها في قمّة المسؤوليّة ودانوا لها ولذرّيتها من بعدها بالولاء، وهذا لم يحصل مع أي دخيل آخر على المنطقة..بل إنّ من القبائل البربريّة من انحازت أثناء الانتفاضة الكبرى إلى العرب وإلى السلطة المركزية وقاتلت بني جلدتها على غرار (مليلة ـ هوارة ـ نفوسة)..فعن أيّة ثورة قوميّة عقائديّة على العرب والإسلام نتحدّث..؟؟     (انتهى)

أبو ذرّ التونسيّ (بسّام فرحات)

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus (0 )