في الدّولار الأمريكي: قصّة أخطر أداة للهيمنة على الاقتصاد العالمي (الجزء 1)

في الدّولار الأمريكي: قصّة أخطر أداة للهيمنة على الاقتصاد العالمي (الجزء 1)

حدّث أبو ذرّ التونسي: ممّا لا شكّ فيه أنّ المسلمين اليوم ـ كباقي شعوب العالم ـ ينظرون إلى المنظومة النّقديّة الدّولية بوصفها وضعًا طبيعيًّا مشروعًا وقدَرًا مقدورًا لا مهرب منه ولا فكاك، كما يُحيطونها بهالة من التّعقيد والصّعوبة ترقى بها إلى مصافّ الطّلاسم والأحجيات بحيث لا يتأتّى طرحُها والخوض فيها إلاّ للخبراء والمختصّين والمفكّرين ومنظّري المبدأ الرّأسمالي…وقصارى ما يتعلّلون به عند اصطدامهم بحقيقة هيمنة الدّولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي هو كون الولايات المتّحدة قوّة اقتصاديّة عظمى ومن الطّبيعي والمنطقي أن تسيطر عملتها على منظومة النّقد العالميّة…

هذه النّفسيّة الانهزاميّة وهذا التّعاطي السّلبي مع واقع الارتهان والتّبعيّة اطمأنّ إليه العمّ سام وعمل على تكريسه لتخدير الشّعوب المُستَغَلَّة وإبقائها تحت السّيطرة وتبرير نهبها لثرواتهم ومقدّراتهم…والأخطر من ذلك أنّ هذا الجلد الطّوعي للذّات قد تجاوز العامّة وأشباه المثقّفين ليطال بعجزه وعُقمه الخُبراء المحليّين: فبحكم تكوينهم الأحادي وبعدهم عن الاقتصاد الإسلامي عجزوا عن تصوّر البديل للمنظومة الرّأسماليّة المتهالكة ورأوا في ثغراتها وعيوبها (أهون الشّرور وأكمل النّواقص)…وبعيدًا عن هذه المغالطات المثبّطة للعزائم، فإنّ فهم نظام النّقد العالمي متيسّر لكلّ من تعلّقت همّته بالكشف عنه، بل هو من البساطة بمكان لمن يتسلّح له بالمعلومات والآليّات والحسّ السياسي المرهف…إلاّ أنّ الماكنة الاستعماريّة وأعوانها يتوجّسون خيفةً من مجرّد الوعي حول هذه المسائل الماليّة لاسيّما بين الشّعوب المُستغلّة، لأنّ إدراكها لحقيقة النّظام النّقدي الدّولي كفيلٌ وحده بإماطة اللّثام عن وجهه البشع وهدم صنمِه وانتزاع مشروعيّته من القلوب والعقول بما يهدّد بالانقلاب عليه وقلعه من جذوره…وحسبنا فيما يلي أن نبسّط هذه المسألة ونقرّبها من الأذهان بعيدًا عن الاصطلاحات الفنيّة المعقّدة والمنفّرة، وأن نتناولها بالطّرح من زاوية سياسيّة: فما الذي جعل للورقة الخضراء المسمّاة (دولارًا) هذه القيمة (المقدّسة)..؟؟ وكيف أصبحت معيارًا ومقياسًا لكلّ العملات والأسعار في العالم..؟؟ وماهي الانعكاسات السّلبيّة لذلك على الاقتصاد العالمي..؟؟

النّظام النّقدي

إنّ المسألة الاقتصاديّة عمومًا والنّاحية الماليّة خصوصًا هي من أهمّ وأخطر وأنجع أدوات الهيمنة الاستعماريّة، بل هي أصل من أصولها…ولفهم هذه النّقطة لا بدّ من التّعريج على النّظام النّقدي في المنظومة الرّأسماليّة ومقارنته بنظيره في الإسلام: فالنّقود عمومًا هي وحدات تقاس بها أثمان الأشياء وأجور الأشخاص، بمعنى أنّها المقياس الذي تقاس به منفعة الشّيء ومنفعة الجهد في تقدير مجتمع ما بحيث تكون واسطةً للمبادلة…وتقدّر قيمة النّقود بمقدار ما فيها من القوّة الشّرائيّة أي بمقدار ما يستطيع الإنسان أن يحصل بواسطتها على سلع وجهود…والأصل في النّقود أن تكون لها قوّة ذاتيّة أو أن تستند إلى قوّةٍ ذاتيّة، والأشياء التي تمتلك قوّةً ذاتيّةً في العرف الإنساني هي الذّهب والفضّة، فتكون هي بذاتها نقودًا كما قد تكون أساسا تستند إليها النّقود: ذلك أنّه لتسهيل التّعامل بهذين المعدنين ـ حَملاً ونقلاً وخزنًا وتبادُلاً ـ التجأ النّاس إلى الورق لما يتميّز به من خفّةٍ في الوزن وقابليّةٍ للطيّ والحمل، وجعلوا فيه قوّةً شرائيّةً واصطلحوا على أنّه نقد ورقيّ وجعلوه نائبًا على المعدنين والتزموا بتغطيته ذَهَبًا أو فضّةً…على هذا الأساس سارت الدّول في إصدار النّقود على نظام الذّهب والفضّة متّبعةً في ذلك أسلوبين: الأوّل هو الأسلوب المعدني ـ فرديًّا كان أم ثنائيًّا ـ بأن تضرب قطعًا من الذّهب أو الفضّة بقيمٍ مختلفة وتطرحها للتّداول كنقود، وكلّ بلد يُميّز نقوده بصفة معيّنة من حيث الشّكل والوزن والنّقش…أمّا الأسلوب الثاني فهو الأسلوب الورقيّ بأن تتّخذ الدّولة لنفسها عملة ورقيّة قابلة للتّحويل إلى الذّهب والفضّة إمّا في شكل (نقود ورقيّة نائبة) أي تنوب عن كميّة من الذّهب والفضّة مودعة في خزانتها ولها نفس قيمتها ،أو في شكل (نقود ورقيّة وثيقة) أي تغطّي بالذّهب والفضّة جزءًا من قيمتها فقط ويبقى الجزء الآخر دون تغطية…ولتمييز نقدها عن نقد سواها من البلدان تعمد كلّ دولة إلى طبع أوراقها النّقديّة على صفة معيّنة ورسم معيّن…

نظرة الإسلام إلى النّقد

نفس هذا النّظام سار عليه الإسلام مع بعض الاستثناءات والتّعديلات: حيث وضع الشّرع معيارًا ثابتًا يقدّرُ به الأجور والأثمان وهو (النّقد) وحصره بالذّهب والفضّة…فقد عيّن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم الذّهب والفضّة نقدًا وجعلهما وحدهما مقياسًا للسّلع والجهود، وأجرى جميع المعاملات على أساسهما، كما حدّد ميزان الذّهب والفضّة بميزان أهل مكّة وقاسهُ (بالأوقيّة والدّرهم والدّانق والقيراط والمثقال والدّينار) وذلك بمقادير مضبوطة دقيقة…فالنّقود في الإسلام من حيث كونها وحدة نقديّة (عملة) ومن حيث جنسها (ذهب وفضّة) ثابتة بأحكام الشّرع وليست موكولة إلى الرّأي والمشورة بل مفروض الالتزام بها: فيجب أن يكون النّقد في الإسلام هو الذّهب والفضّة ناهيك وأنّه قد تعلّقت به أحكام شرعيّة (تحريم الكنز ـ وجوب الزّكاة…) كما رُبِطت به أحكام أخرى (نصاب القطع ـ ديّة القاتل…)..ومن جهة ثانية فإنّ ما جعله الرّسول نقدًا هو جنس الذّهب والفضّة سواءٌ أكانا على حالتهما الطّبيعيّة (معدن ـ سبائك ـ تبر…) أم مضروبين في شكل عملات منقوشة مختلفة المصادر (روميّة ـ فارسيّة ـ حبشيّة…) ويبقى الاعتبار بالوزن أي أنّ نظام النّقد في الإسلام من حيث أساسه هو الذّهب والفضّة بالوزن، أمّا الحجم والضّرب والشّكل والنّقش فكلّها من الأساليب…وممّا يُفهم من حصر الاعتبار في الوزن وتقديمه على سائر الاعتبارات الأخرى أنّ المقصود بالذّهب والفضّة هو العين وما ينوب عن العين: فالنّقد يجب أن يكون من الذّهب والفضّة أو أساسه الذّهب والفضّة أي نحاسًا أو برنزًا أو وَرَقًا بالنّيابة عن الذّهب والفضّة شرط أن تكون لها تغطية كاملة (نقود معدنيّة أو ورقيّة نائبة) أمّا التّغطية الجزئيّة (النّقود الورقيّة الوثيقة) فلا تجوز شرْعًا لأنّ جزءًا منها لا يمكن تحويله إلى ذهب أو فضّة…وعليه فإنّ النّقد في الإسلام ذهب وفضّة أو معادن وأوراق نائبة عنهما تتمتّع بتغطية كاملة…

فوائد نظام الذّهب

إنّ النّظام النقدي بالكيفيّة التي بُسطت آنفًا سواء بالمواصفات الشّرعية أو بغيرها اصطُلح على تسميته بنظام الذّهب أو نظام الذّهب والفضّة: فإذا كانت دولة ما تستعمل في معاملاتها الدّاخلية والخارجيّة أو كليهما عُملة ورقيّة مغطّاة كليًّا أو جزئيًّا بالذّهب أو الفضّة أي قابلة للتحويل إلى الذّهب أو الفضّة اعتُبرت هذه الدّولة سائرة على نظام الذّهب والفضّة، وهي حال الدّولة الإسلاميّة قبل سقوطها وحال سائر دول العالم إلى مطلع القرن (20م)…وتكون الوحدة الورقيّة في مثل هذا النّظام قابلةً للتحويل إلى كميّة معيّنة من الذّهب أو الفضّة والعكس صحيح، وبذلك تظلّ قيمة العملة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقيمة الذّهب صعودًا ونزولاً…ولنظام الذّهب هذا فوائد عديدة أهمّها: أوّلاً: ثبات الأسعار في المجتمع لثبات قيمة النّقود على مدى طويل…ثانيًا: ثبات سعر الصّرف بين الدّول بما ينشّط التّجارة الدّولية فلا خوف على التجّار من التوسّع فيها…ثالثًا: تنشيط تداول الذّهب ـ استيرادًا أو تصديرًا ـ بما يؤدّي إلى استقرار نقدي مالي واقتصادي…رابعًا: توازن بين كميّة الأوراق النّقديّة المطبوعة وبين احتياطاتها من الذّهب حتّى تتمكّن الدّولة من تغطية طلبات المبادلة بالذّهب…خامسًا: تحديد القيمة الذّهبية لكلّ عملة بدقّة وزوال شبح العملات النّادرة بما يسهّل انتقال البضائع والأموال والأشخاص بين البلدان…سادسًا: محافظة البلدان على ثرواتها الذّهبيّة فلا يحصل تهريب للذّهب من بلد إلى آخر، بل لا ينتقل إلاّ بسبب مشروع إمّا أثمان سلع أو أجور مستخدمين…لقد كان لتطبيق هذا النّظام أطيب الأثر في العلاقات الاقتصاديّة، إذ اضطلعت النّقود في ظلّه بوظيفتها الأساسيّة على أحسن وجه كمقياس للتّبادل ومخزون للقيمة ومقياس للمنفعة…ولقد حتّمت هذه الفوائد وغيرها عولمة نظام الذّهب وجعله نظامًا عالميًّا في النّقد…

النّقود الورقيّة الإلزاميّة

إلى حدود العقد الأوّل من القرن العشرين كانت الدّول الرّأسمالية ملتزمة بنظام الذّهب وبإعطاء كلّ من يملك عملتها الخاصّة ما يقابلها من الذّهب…لكن مع اندلاع الحرب العالميّة الأولى احتاجت تلك الدّول إلى ثروات ضخمة لتمويل المجهود الحربي، فتحرّكت فيها ماكنة الجشع الرّأسمالي واتّخذت إجراءات صارمة فيما يتعلّق بتداول الذّهب ـ استيرادًا وتصديرًا وتحويلاً ـ ممّا أدخل اضطرابًا على نظام الذّهب…ثمّ انزلقت شيئًا فشيئًا إلى إصدار نقود بلا غطاء ذهبي فطبعت أطنانًا من العملات الورقيّة دون وجود مقدار من الذّهب أو الفضّة يساوي قيمتها، أي مجرّد ورق فاقد لقيمته كنقد مغطّى…وهو حدث مفصلي وخطير في تاريخ المعاملات الماليّة والاقتصاديّة سيفضي بها إلى دوّامة من التقلّبات والأزمات، وقد أسّس لنوع ثالث جديد من النّقود الورقيّة هي (النقود الورقيّة الإلزاميّة) أو (الأوراق النقديّة)…وإذا كانت (النّقود الورقيّة النّائبة) مغطّاة كليًّا بالذّهب والفضّة و(النّقود الورقيّة الوثيقة) مغطّاة جزئيًّا بها، فإنّ هذه النّقود الورقيّة الإلزاميّة فاقدة كليًّا للغطاء الذّهبي أو الفضّي فلا تصرف بذهب أو فضّة ولا يضمنها احتياطي ذهب أو فضّة…وهي بذلك تكون قد خرجت عن نظام الذّهب إلى نظام جديد وهو (نظام الورق الإلزامي)…وبمقتضى هذا النّظام تُصدر الدّول أوراقًا نقديّة غير قابلة للتحويل إلى الذّهب أو الفضّة أو أي معدن نفيس وتكون غير مُلزمة بتحويلها إلى ذهب بسعر معيّن، ويصبح الذّهب بمثابة السّلعة يتغيّر ثمنه بين الفينة والأخرى حسب ظروف العرض والطّلب…وليس لهذه النّقود قوّة ذاتيّة ولا تستند إلى قوّة ذاتيّة وإنّما هي وحدة ورقيّة لا يضمنها احتياطي معدني وقد اصطُلِح عليها لتكون أداة للتّبادل، والقانون هو الذي منحها قوّةً لتكون أداةً للتّبادل…أمّا قوّتها فتستمدّها من قوّة الدّولة التي أصدرتها واتّخذتها نقدًا لها…وعليه فإنّه إلى حدود سنة 1944 تزامنت النّقود المعدنيّة والنّقود الورقيّة بأنواعها الثّلاثة، وكان العالم يسير بالتّوازي على نظام الذّهب ونظام النّقد الورقي الإلزامي…أمّا كيف دخلت الولايات المتّحدة على الخطّ ومكّنت لدولارها في الكرة الأرضيّة وجعلته عملة عالميّة أقوى من الذّهب والفضّة فذلك ما سنراه في الجزء الثّاني من هذه المقالة…  (يتبع)

أ.بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus (0 )