في حربه على الفساد, الرئيس يحاكي دون كيشوت

في حربه على الفساد, الرئيس يحاكي دون كيشوت

كل ما تحتدم الأزمة بل الأزمات في تونس ترتفع وتيرة هجمات الرئيس قيس سعيد على خصومه وعلى من يصفهم بالمتآمرين على الشعب والمتاجرين بقوته وسارقي أحلامه وأماله.. وعادة ما يستدعي الرئيس أحد موظفيه ثم ينطلق في ترديد سرديته التي حفظها الجميع عن ظهر قلب: « هناك من يتاجر بقوت الشعب.. هناك من يتلقى أموالا من الخارج.. هناك من نهب المليارات.. هناك من جوع الشعب هناك من يريد إسقاط الدولة.. هناك من يحكم من وراء الستار…هناك وهناك وهناك ». وبقية السردية « سنطهر البلاد من الفاسدين.. سنطهر البلاد من المارقين عن القانون.. سنسحق أعداء الدولة.. سنحاسبهم, سنقضي عليهم… ». وحتى لا يشعر الناس بالملل اختار الرئيس أن يكون إعلانه على حروبه التي لا تنتهي, مختلفا من حيث الشكل, حيث انتقل في ساعة متأخرة من الليل إلى مقر وزارة الداخلية وأعلن من هناك حربا جديدة على المحتكرين وتوجه إلى القادة الأمنيين بقوله: « أريدها حربا لا هوادة فيها ضد هؤلاء المحتكرين المجرمين في إطار القانون.. » وأضاف: « ظاهرة الاحتكار سنتصدى لها وقد تم تحديد ساعة الصفر للقيام بالواجب الذي تقتضيه المسؤولية » علما أن نذر الحرب على المحتكرين سبقتها هدنة بعد تلك الغزوات الشهيرة التي شنها الرئيس على مخازن البطاطا ومصنع للحديد, فالرئيس لا يعلن حروبه إلا اذا كان هناك تشكي من نقص مادة ما, وبمجرد أن يتقلص حجم تململ الناس يعود إلى قواعده وتصمت صواريخه ومدافعه التي يوجه قذائفها في اتجاهات عدة وبشكل عشوائي, وتكون النتيجة لا إصابات ولا خسائر تذكر في صفوف المتسببين الفعليين في معاناة الناس. فمثلا النقص الحاد هذه الأيام في مادتي « السميد والفرينة » سببه الأول اعتماد الدولة الكلي على توريد القمح نتيجة خياراتها الفاشلة المتبعة في منظومة الحبوب التي لم ولن تمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي, وساهمت بشكل مباشر في تقلص عدد الفلاحين وتراجع المساحات المخصصة لزراعة الحبوب.

وبما أن الفشل مكون من مكوناتها, اختارت الدولة التوريد حلا لمعضلة تراجع زراعة الحبوب فكانت كمن استجار بالنار من الرمضاء, فبسبب الأزمة المالية التي تتخبط فيها عجزت على سداد فواتير وارداتها من الحبوب, حيث لم تقدر على تسديد أثمان 4 بواخر راسية في ميناء صفاقس منذ ثلاثة أشهر تقريبا, علما أن تونس أكثر من 50 بالمائة من حاجتها من القمح الصلب وأكثر من 90 بالمائة من حاجتها من القمح اللين وهي القادرة حسب ما أكده أكثر من خبير على أن تنتج ما يغنيها عن التوريد لكن غياب الإرادة يحول دون تحقيق هذا الهدف بدليل اختيار الرئيس « قيس سعيد » الحلقة الأضعف وإعلان الحرب عليها, فالمحتكرين الذين توعدهم الرئيس بالويل والثبور هم نتيجة لسياسة دولته المستميت في الدفاع عنها, فهي الحامية والمقننة للاحتكار الأكبر فقد تركت الفلاح وحيدا بلا دعم في مواجهة ارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج التي تحتكرها شركات محددة أعدت لها الدولة قوانين على المقاس في تمثل لتلك الشركات حزام أمان يمنع عنها المحاسبة بل حتى المساءلة, وتفسح المجال لرئيس الدولة ليشن حروبه على صغار المحتكرين ويذر الرماد على العيون كيفما يشاء، ويقوم بعملية تبييض تلك القوانين التي بموجبها تُرتكب الجرائم في حق البلاد والعباد، فهي عتاده الذي به سيقضي على الفساد والفاسدين وهذا ما فتئ يردده في كل إعلان عن حرب جديدة: « سنقاوم هؤلاء في إطار القانون » وبهذا يكون قد حاكى « دون كيشوت » في حربه من اجل استعادة أمجاد الفرسان الجوالين ويقوم بمحاكاة سيرهم في نشر العدل ومساعدة المستضعفين والدفاع عنهم, فأعد عدته وقام باستخراج سلاح قديم متهالك وامتطى صهوة جواد أعجف هزيل وحين لم يجد من يحارب أعلن حرب شعواء على طواحين الهواء. فسلاح « دون كيشوت » لا يصلح للقتال والجواد الذي يمتطيه لا يقوى على خوض المعار, والأدهى من هذا كله لا يوجد عدو يقاتله. وبالانتصار عليه يحقق هدفه النبيل وهو نصرة المقهورين والمستضعفين, فاختار عدوا وهميا محاربته لن تحقق شيئا مما يصبو إليه. والرئيس قيس سعيد اختار سلاحا لا يحقق ما يطمح له المفقرون والمهمشون والجياع, لأن ذلك السلاح هو سبب تفقيرهم وتهميشهم وتجويعهم والتنكيل بهم. والعدو الذي شن « قيس سعيد » الحرب عليه ليس أولئك المهربين والذين وصفهم بالمجرمين فهم من إحدى إفرازات نظام مجرم وقوانين جائرة باطلة تطبقها دولة مجرمة، فالعدو الحقيقي لمن انبرى الرئيس يذود عنهم هو النظام الديمقراطي الوضعي والجريمة الكبرى التي ارتكبت في حق تونس وأهلها وسائر المسلمين هي فصل الإسلام عن الحياة والتشريع من دون الله وعليه فالتطهير الذي يصر الرئيس على التركيز عليه يجب أن يطال النظام القائم وكل ما ينبثق عنه, وما عدى ذلك لهوٌ وعبث وترسيخ للفساد وتثبيت للفاسدين.

أ, حسن نوير

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )