لا إصلاح لفساد الأنظمة الوضعية إلا بإسقاطها

لا إصلاح لفساد الأنظمة الوضعية إلا بإسقاطها

      بات الفساد في تونس يعايش الناس في كل جوانب حياتهم، يصاحبهم في ليلهم ونهارهم، وفي حلهم وترحالهم، بعد أن تهيكل في مفاصل الدولة على امتداد عقود عمر الدولة الوطنية، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، حتى أضحت القناعة راسخة لدى عامة الناس أنه لا يمكن الانتفاع بكثير من الخدمات الإدارية لا يحوله عنها مانع، أو الحصول على وظيفة أو مهمة إدارية تؤهله لها شهائده وقدراته، إلا بالوساطة، أو الولاء الشخصي أو الحزبي، أو برشوة، وأضحى التراشق بتهم تعيين المناصب العليا بين مختلف الحساسيات السياسية أمرا مألوفا ولا يثير الاستغراب أو الاستنكار الجدي.

     صار الفساد يسير في شوارع، وطرقات، وأزقة البلاد عاريا لا يستتر فيواري سوأته، ولا يتلثم بلثام ليخفي قبح وجهه.

          ــ تنتصب الاعتصامات المطالبة بالحقوق فلا يصل القائمون عليها لغايتهم، وتسد الشغورات الوظيفية والمهنية، والمعتصمون يسمعون وينظرون، ويطوى الأمر بغبار التعب واليأس.

          ــ تتلف المحاصيل، وتعقد الصفقات المشبوهة داخلية كانت أو خارجية، فيعلو الضجيج حولها في كل مرة، ولكن سرعان ما يتدخل « القانون » فيمضيها، ولا يحمل جريرة تلك الجرائم لأحد، ودون أن يكون للرأي العام اعتبار يذكر.

          ــ تهدر مقدرات البلاد، وتنهب ثرواتها وتستنزف تحت بصر وسمع أهلها، ويسربلهم « القانون » بالعجز، ويحذرون من « التنطع »، وركوب المغامرات وخيمة العواقب.

          ــ تهافت مقيت على القروض الخارجية، يسبغ عليها « نواب الشعب » الشرعية القانونية المدسترة، ثم يبتلعها ثقب أسود لا يبحث عن عقره أحد، بيعت بها البلاد والعباد بيع سماح.

      عربد الفساد في بلادنا حتى غدت أحواله معلومة غير مجهولة، وعم السهل والجبل، وطغت شخوصه حتى شابت قرونهم فيه، وصار رأيهم هو الحجة وموقفهم هو الفاصل، وإمعانا في التضليل، وإيغالا في السخرية، نصبوا لمقاومة الفساد هيكلا يسمى: الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد.

الفساد ملح النظام الرأسمالي

   أورد الصحافي والناقد السينمائي السوري قصي صالح الدرويش في كتابه الذي أصدره أوائل سنة   1987 تحت عنوان: « يحدث في تونس » أن زوجة أحد الوزراء السابقين جاءت بورقيبة، تشكو قلة ذات اليد، وأن كراء المنزل أرهقهم، فأجابها « المجاهد الأكبر »بقوله « ماذا أفعل له وقد وضعته في مكان يأكل منه الذهب، فأبى ». فالنظام الرأسمالي بطبيعته يبيح لصاحب السلطة أي تصرف ولا يعد ذلك فسادا إلا إذا افتضح أمره وأزكمت رائحته الأنوف. ألم يقل ترامب أيام فاز بالانتخابات الرئاسية لبلده، للصحافيين حين واجهوه بأن نسبة الضرائب التي يدفعها لا توافق حجم ثروته، فأجاب بأنه وجد ثغرة في القانون فاستغلها؟ وكذلك يعطي النظام الرأسمالي نفسه، المعارض دور المحارب للفساد، فيتخذ من ذلك مطية لمصارعة الخصوم السياسيين، ويجد في اتهامهم بالعجز عن محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، مجالا رحبا للبروز وكسب ثقة الناخبين.

       فأي فساد قاومه رئيس الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد، وهو الذي عين منذ جانفي 2016 ليقول منتصف 2020 « إنه إذا تواصل الفساد في تونس بهذا القدر وعلى الشكل الحالي فسيقضي على أركان الدولة ويحولها إلى دولة « مافيوزية « .

         فالمعارض الذي يبح صوته وهو ينعى الفساد السياسي، والاقتصادي، والأمني وأهله، ويصدع الآذان بمثالية مقيتة حول مقاومة الفساد، يدرك يقينا جدية المنظومة الرأسمالية المهيمنة عالميا في توفير الحماية للفاسدين في بلدانهم فهم أعمدتها وضمانة هيمنتها. حتى إذا وصل إلى مركز القرار وكان له موقعا في السلطة، وأشبع غرور الانتشاء بممارستها في نفسه عرف قدره، ولا يتجاوز حده، ويقنع نفسه أن مقتضيات الحكم تفرض « العقلانية » بالتغاضي عما يسمى فسادا واعتباره من الصغائر. فمن يجرؤ على تحدي الأباطرة من دينصورات المال وحراس معبد النظام الرأسمالي، ويؤذيهم في عبيدهم، فهم فقط من يملكون حق الرضا والغضب.

القوى الاستعمارية تحدد معايير الصلاح والفساد

       فالقوى الاستعمارية التي فرضت علينا نظامها بالقوة والبطش هي وحدها وعن طريق مؤسساتها ومنظماتها التي عشّشت في بلادنا، وفرّخت في عقول الساسة، وسائر المضبوعين بثقافة المستعمر، تلك القوى هي التي وضعت معايير الفساد ونسبها، وهي التي تعطي صكوك البراءة فيسعد لها الأغبياء. وهي التي تملك حق ملاحقة القائمين على النظام ومراقبتهم في تقيدهم بحدود ما رسم لهم، وهي التي تقوم على حماية أذنابها من غضب شعوبهم بما يضمن دوام هيمنتهم، أو تغييرهم إن اقتضت الأوضاع ذلك. وهي التي تقوم، في نفس الوقت، مقام المحاسب الضامن، للطهارة الديمقراطية، فلم يتورع تقرير لمعهد كارنيغي الأمريكي عن وصف الحكم في تونس ب: « حكم اللصوص » لإحكام الطوق حوله، وحتى لا يرى مفرا من الانقياد التام لما يسمى بالمجتمع الدولي، للعجز الفطري لدى هذه النظم لفهم آلية التحولات الديمقراطية وما تقتضيه من آليات للحرب على الفساد وسبل تطبيقها، وما تتطلبه هذه الآليات من تمويل ومساعدات تقنية تفرضها قوى الهيمنة لتكون قيدا إضافيا يكبلها. ذلك دون إغفال اعتمادهم على عيونهم بيننا: منظمات المجتمع المدني التي تتبارى في تقديم التقارير عن مختلف جوانب الحياة عندنا. ومن يبدو عليه بوادر التفلت، فإن سيف الإرهاب والتطرف كفيل بإعادته لجادة « الصواب « .

        فهل لمن قبل بالانخراط في المنظومة السياسية الغربية من طاقة على محاربة الفساد، وإن خلصت منه النية، وقد عمدت قوى الشر العالمية إلى حماية « الهيكل » بجيوش من المتثاقفين والإعلاميين، والسياسيين « العقلانيين » ولفيف من العبيد المبثوثين في كل القطاعات وعلى كل المستويات، وما أمر عبد الفتاح عمر، وفوزي بن مراد، وطارق المكي… رحمهم الله وغيرهم ممن خاضوا هذا العباب؟

      أما آن للصادقين من أبناء الأمة أن يدركوا أن الخلل هيكلي، أي أنه في مادة النظام الديمقراطي الرأسمالي، رغم ما لمسوه من آثاره المدمرة، والضنك الذي تتجرعه أمتنا؟ ألم ندرك بعد أن الخير كله في شرع الله وأ ن من رغب عن تشريع الله رب العالمين من المسلمين فعمله غير مقبول ومعيشته ضنك؟ هل المؤمن يخجل من أحكام الله؟ هل يحل للمسلم أن يعطي حق التشريع لمن كفر بالله سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام؟

       بلى آن للمسلمين أن يتبرؤوا من الأنظمة العلمانية الكافرة الجائرة، فهي لا تقبل الإصلاح مطلقا: بل إصلاحها في إسقاطها شعار وعنوان لازالت قلوب أهل تونس وإخوانهم من أمة الإسلام تهفوا إليه.

          قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ [ طه: 124]. وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً﴾ [الأحزاب: 36]

وقال رَسُولَ اللهِ ﷺ « مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ ».

أ, عبد الرؤوف العامري

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )