من يضع العقوبة ويحدّد نوعها: الخالق أم المخلوق؟

من يضع العقوبة ويحدّد نوعها: الخالق أم المخلوق؟

الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

عرّف علماء الاجتماع الجريمة بأنّها كلّ فعل يعارض عرف الجماعة وينتهك معاييرها الأخلاقية مما يستوجب العقوبة. وعرّفها علماء النفس بأنّها عملية إشباع شاذة لغريزة إنسانية يصحبها خلل في البنية الصحيّة النفسيّة. وعرّفها علماء القانون بأنّها الفعل الذي نصّ القانون على تحريمه ورتّب عقوبة على ارتكابه. وعرّفها علماء القانون الإسلامي بأنهّا إتيان فعل محرم معاقب على فعله، أو ترك فعل محرم الترك معاقب على تركه، أو هي فعل أو ترك نصت الشريعة على تحريمه والعقاب عليه.

والجامع لكلّ هذه التّعاريف قولنا: الجريمة هي الفعل القبيح المخالف للنظام والمستوجب للعقوبة. وكما ترى، فقد لمّ هذا التعريف شتات المعاني المتناثرة في مختلف التعاريف؛ فالفعل القبيح هو الفعل المنتهك لعرف الجماعة، وهو الفعل الشّاذ، وهو الفعل المحظور من وجهة نظر وضعيّة بشريّة أو شرعيّة ربانيّة، وهو ما يعني مخالفته للنظام الذي ينظّم أفعال الإنسان – بغض النّظر عن مصدر النّظام – مما يستوجب عقوبة دنيوية أو أخروية.

ومّما سبق يفهم أنّ مفهوم الجريمة نسبيّ، تختلف فيه أنظار النّاس بحسب معتقداتهم ومفاهيمهم عن الحياة وأنظمتهم؛ فقد يعدّ الفعل في مجتمع ما جريمة، ولا يعدّ في مجتمع آخر جريمة، كالعلاقة الجنسية بين اثنين خارج الزواج: تعدّ في ديننا وشرعنا الإسلامي من المحرّمات المحظورات، وتعدّ في الثقافة الغربية من المباحات، إلّا أنّ هذا لا يعني نسبية الجريمة مطلقا، فهناك بعض الأفعال التي اتّفق البشر قاطبة على عدّها جريمة كقتل النّفس دون موجب أو الاغتصاب أو السرقة.

لن نتحدّث في هذا المقام عن معايير تحديد الفعل الذي يعدّ جريمة يعاقب عليها، ونترك هذا البحث لوقت آخر، وستناول هنا مسألة العقوبة باعتبارها قيد وصف الفعل بأنّه جريمة؛ إذ إنّ الفعل لا يعدّ في العرف القانوني جريمة إلّا إذا تقرّرت عليه عقوبة ما. فما هي العقوبة، ومن يحدّدها؟

العقوبة هي جزاء سوء على فعل سوء؛ كأن تقول: القاتل يقتل، أو القاتل يسجن مدى الحياة أو غير ذلك.

وأكثر العقوبات في حقيقتها لا يدلّ عليها الدّليل العقلي إثباتا أو نفيا، إنّما هي تابعة للنظّام الذي يتبنّاه الإنسان، فيقرّ بها ويقبلها تبعا لإقراره وقبوله بالنظّام المحدّد للمحظور والمباح.فالعقل يثبت صحّة مطلق العقوبة، فيقرّر أنّ من الأفعال ما هو قبيح يعاقب عليه لمنع ارتكابه، ولكنّه لا يثبت صحّة كلّ عقوبة؛ لنسبية مقياس التّحسين والتّقبيح والتّفاوت والاختلاف فيه بين البشر.

وكذلك نوع العقوبة مطلقا، فإنّه لا يدلّ عليه الدّليل العقلي تأصيلا في الإثبات أو النّفي؛ فلا تحتاج إلى برهان وحجّة فكريّة للدّلالة على صحّته أو عدم صحّته. فلو قلت مثلا: السّارق يعاقب، واتّفق البشر عقلا على صحّة عقوبته مطلقا، فإنّك تسأل: كيف يعاقب وما نوع العقاب، وهذا ممّا لا سبيل إلى العقل لتأصيله.فيمكن أن تقول مثلا: يسجن سنة، فلا يقال لك: ما دليلك العقلي وبرهانك على هذا؟ وإنّما يقال لك مثلا: لماذا سنة فقط وليس أكثر أو أقلّ؛ فلن تأتي بحجّة عقلية للإثبات أو النّفي، إنّما ستأتي بحكمة مقدّرة كأن تقول: في السّنة كفاية.

فمن ناحية عقلية صرفة ليس قول القائل بالسّنة أصحّ فكرا من قول القائل بسنتين مثلا، أو العكس؛ إذ إنّ العقوبات من حيث وضعها ونوعها تقديرية قائمة على فلسفة تحديد جزاء على فعل قبيح محظور بكيف أو كمّ مخصوص على وجه مخصوص لحكمة ما. والعادة أن يكون مقصود الحكمة عند البشر الزّجر أي تزجر النّاس عن ارتكاب الجرائم، وأضاف لها الإسلام الجبر أي تجبر عقوبة الآخرة فتسقط بعقوبة الدنيا.

وبما أنّ العقوبات من حيث الوضع والنوع لا يثبتها العقل بحجة قاطعة، فلم يبق لإثبات صحّتها أو وجاهتها إلّا النظر في أصلها ومصدرها، ثمّ في نتائجها وأثرها.

فإذا كان الحكم صادرا عن عقل بشري أي عن الإنسان المحدود؛ فإمكان الخطأ فيه ثابت باليقين، وأمّا إذا كان الحكم صادرا عن خالق الإنسان؛ فإمكان الخطأ فيه منفي باليقين؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}. ومن هنا: فالمسلم المؤمن بصلوحية الإسلام لكل زمان ومكان، لا يشكّ لحظة في صحّة وحكمة العقوبات المقدّرة في الشريعة حدّا وتعزيرا.

وأمّا غير المؤمن، فلا حجّة له على صحّة تقدير عقوبة ما أصلا ونوعا إلّا فاعليتها في الزّجر أي النظر في أثرها في المجتمع، هل زجرت النّاس عن ارتكاب الجرائم أم لا؟ والمشاهد المحسوس أنّ نظام العقوبات القائم في بلادنا خاصّة والعالم بأكمله عامّة لم يحقّق مقصده وحكمته؛ فلا يزال عدد الجرائم في ارتفاع ولا يزال النّاس يتجرّؤون على ارتكاب الجريمة بل زادت بشاعتها وقبحها عند مرتكبيها. وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على عدم صلوحية نظام العقوبات المطبّق، وأنّه فشل وعجز في ضمان الأمان والأمن في المجتمع.

وقد يقول قائل: هل تريد من المجتمع المدني المتحضّر أن يعود إلى منظومة العقوبات الإسلامية القديمة القاسية غير الإنسانية من قصاص وجلد وقطع أيد ورجم؟

والجواب: نعم؛ لأنّ مفهوم القسوة والوحشية واللاإنسانية من المفاهيم النّسبية، وهي مجرّد عبارات توصيفية لا تثبت حكما أو تنفيه. ومثال ذلك: هل من الإنسانية أن لا يقتل القاتل، فلا يرتدع القتلة؟ أم من الإنسانية أن يقتل القاتل فيرتدع القتلة وتحفظ لقتل واحد نفوس جماعة؟ فالإنسانية أن تستمرّ الإنسانية في الحياة، ولا يكون ذلك إلّا بردع القاتل بأسلوب يحقّق الحكمة؟ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

إنّ الذين ينتقدون نظام العقوبات في الإسلام ينتقدونه بلا حجّة ولا برهان، ويعتمدون كلمات فضفاضة لا تؤصّل لفكرة ولا تخدم حكمة؛ إنّما هي زمزمة نار حقد تلتهب في باطنهم تحرق ذواتهم، فلا هم أصلحوا المجتمع، ولا هم تركوا المصلحين فيه يصلحون ما أفسدوهم. عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِقَامَةُ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ مَطَرِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي بِلَادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».

ياسين بن علي

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )