أضواء على أجهزة دولة الخلافة: المعاونون (وزراء التّنفيذ)

أضواء على أجهزة دولة الخلافة: المعاونون (وزراء التّنفيذ)

كنّا أحطنا في الحلقة الفارطة من هذه السّلسلة بالجهاز الثّاني من أجهزة دولة الخلافة ألا وهو جهاز معاون التّفويض (وزير التّفويض)، أمّا في هذه الحلقة فسنفصّل القول في النّوع الثّاني من المعاونين ألا وهو معاون التّنفيذ (وزير التّنفيذ) ونستغرق جهازه واقعا وتسمية وشروطا وأعمالا وصلاحيّات..إنّ الخليفة حاكم يضطلع بالحكم والتّنفيذ ورعاية شؤون النّاس، وهذه الأعمال الجسام تضيق عنه بمفرده مع اتّساع الدّولة وتقتضي منه اتّخاذ معاونين لإحكام إنجازها: فأمّا ما كان منها متعلّقا بالحكم الفعليّ (التّقليد والعزل  والاستنابة ـ قيادة الجيوش ووضع الخطط وعقد المعاهدات والهدن ـ رسم السّياسات الاقتصاديّة ـ اتّخاذ الإجراءات والقرارات..)، فيستعين فيها الخليفة بمعاونيّ التّفويض كما بينّا، فيفوّض إليهم شؤون الحكم مشروطة بالزّمان والمكان والكيفيّة تحت إشرافه ومتابعته..وأمّا ما كان منها متعلّقا بالأعمال الإداريّة المحضة، فإنّها توكل إلى جهاز خاصّ يكون تحت تصرّف الخليفة لإدارة الشّؤون التي يحتاجها أثناء اضطلاعه بمسؤوليّات الخلافة، ألا وهو جهاز معاون التّنفيذ: فيعيّن الخليفة معاونا أو أكثر ليعينوه على القيام بالأعمال الإداريّة المتمثّلة في تنفيذ أعمال الحكم وأعمال الإدارة التي تصدر عن الخليفة أو عن معاون التّفويض، ومن هنا جاءت تسميته بمعاون التّنفيذ في مقابل معاون التّفويض الذي يقوم بأعمال الحكم..وكان معاون التّنفيذ على عهد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء الرّاشدين يسمّى (الكاتب)، ثمّ صار يسمّى (صاحب ديوان الرّسائل أو المكاتبات)، ثمّ أطلق عليه الفقهاء تسمية (وزير التّنفيذ) بالمعنى اللغويّ لكلمة وزير ـ كما رأينا ـ أي معاون التّنفيذ..

واقعه وشروطه

إنّ وزير التّنفيذ هو الوزير الذي يعيّنه الخليفة ليكون معاونا له في التّنفيذ والملاحقة والأداء، ويكون وسيطا بين الخليفة وأجهزة الدّولة والرّعايا والخارج، فيؤدّي عنه ويؤدّي إليه..فهو معين في تنفيذ الأمور وليس بوال عليها ولا متقلّد لها، فعمله من الأعمال الإداريّة وليس من الحكم، أي أنّ  وظيفة معاون التّنفيذ إداريّة بحتة ولا علاقة لها بالحكم: فدائرته هي عبارة عن جهاز لتنفيذ ما يصدر عن الخليفة للجهات الدّاخليّة والخارجيّة ولرفع ما يرد إليه من هذه الجهات، فهي همزة وصل بين الخليفة وبين غيره تؤدّي عنه وتؤدّي إليه..فوزير التّنفيذ وسيط بين الخليفة وبين الرّعايا والولاة، يؤدّي عنه ما أمر وينفّذ ما صدر ويمضي ما حكم ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيش إلخ..كما يعرض على الخليفة ما ورد منهم وما جدّ من أحداث وقضايا ومطالب ليعمل فيها بما يُؤمر به، فهو شبيه بمدير ديوان رؤساء الدّول في الوقت الحاضر..وبوصفه إداريّا فإنّ شروط وزير التّنفيذ تختلف عن شروط الحاكم السّبعة، فلا يشترط فيه إلاّ شرطان يقتضيهما وضعه بصفته متّصلا مباشرة بالخليفة لا ينفصل عنه: الأوّل أن يكون مسلما، فلا يجوز البتّة أن يكون كافرا لكونه من بطانة الخليفة، وقد جاء النّهي صريحا في القرآن الكريم عن اتّخاذ الخليفة بطانة له من غير المسلمين، قال تعالى (يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا)..أمّا الثّاني فأن يكون رجلا، فلا يجوز مطلقا أن يكون أنثى، رغم أنّ سائر المناصب الإداريّة مباح للمرأة شرعا أن تضطلع بها: ذلك أنّ وزير التّنفيذ متّصل مباشرة بالخليفة وعمله لصيق به، وتقتضي مهمّته مطالعة الخليفة والاجتماع به اجتماعا معزولا في أيّ وقت من الليل أو النّهار، وهذا من شأنه أن يوقعهما في الخلوة المحرّمة ولا يتناسب مع ظروف المرأة وفق أحكام الشّرع..

تعدّد وزير التّنفيذ

ويجوز أن يتعدّد وزير التّنفيذ فيكون أكثر من واحد حسب الحاجة ووفق مقتضيات العمل الذي يكون فيه وسيطا بين الخليفة وغيره..فللخليفة أن يعيّن كتّابا بالقدر الذي يحتاجه في مكاتباته، بل قد يصبح ذلك واجبا إن تعلّق القيام بالواجب بتعيينهم وفق قاعدة ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب..وقد ذكر أصحاب السّير أنّه كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حوالي عشرين كاتبا: فقد روى البخاريّ في صحيحه أنّ الرّسول أمر زيد بن ثابت أن يتعلّم كتاب يهود ليقرأه عليه إذا كتبوا إليه، فتعلّمه في خمسة عشر يوما..وروى بن إسحاق عن عبد الله بن الزّبير (أنّ الرّسول صلّى الله عليه وسلّم استكتب عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث وكان يجيب عن الملوك)، وروى البيهقيّ عن عبد الله بن عمر قال (أتى النبيّ كتاب رجل فقال لعبد الله بن الأرقم: أجب عنّي، فكتب جوابه ثمّ قرأه عليه فقال: أصبت وأحسنت اللهمّ وفّقه)..وذكر محمّد بن سعد عن عليّ بن محمّد المدائنيّ أنّ محمّد بن مسلمة هو الذي كتب لوفد مرّة كتابا بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان عليّ بن أبي طالب كاتب عهوده إذا عاهد وصلحه إذا صالح، وكان معيقيب بن أبي فاطمة على خاتمه، خرّج البخاري في التّاريخ عن معيقيب أنّه قال (كان خاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حديد ملوّن عليه فضّة وكان بيدي)..

أعمال وزير التّنفيذ

إنّ معاون التّنفيذ وسيط بين الخليفة وغيره، فهو جهاز توصيل من الخليفة وجهاز توصيل إلى الخليفة، كما أنّه مطالب بملاحقة ما يقتضي الملاحقة من أعمال جهاز الدّولة..والأمور التي يكون وسيطا فيها أربعة (العلاقات الدّوليّة ـ الجيش أو الجند ـ أجهزة الدّولة غير الجيش ـ العلاقات مع الرعيّة): فالخليفة هو الحاكم الفعليّ وهو الذي يباشر بنفسه الحكم والتّنفيذ ورعاية شؤون النّاس، لذلك فهو دائم الاتّصال بجهاز الحكم وبالعلاقات الدوليّة وبالأمّة، فيُصدر أحكاما ويتّخذ قرارات ويقوم بأعمال رعاية ويطّلع على سير جهاز الحكم وعوائقه ومتطلّباته..كما يُرفع إليه ما يرد من الأمّة من مطالب وشكايات وشؤون، هذا إلى جانب متابعته للأعمال الدوليّة..وإنّ واقع هذه الأعمال يفترض أن يكون معاون التّنفيذ وسيطا فيها يؤدّيها عن الخليفة وإليه..وبما أنّ ما يصدر من الخليفة إلى الأجهزة وما يرد من الأجهزة إليه يحتاج عمليّا إلى متابعة لتنفيذه، كان لزاما على معاون التّنفيذ أن يقوم بهذه المتابعة حتّى يتمّ التّنفيذ: فيتابع الخليفة ويتابع الأجهزة بإصرار، ولا يكفّ عن ذلك إلاّ إذا طلب الخليفة منه ذلك، لأنّ الخليفة هو الحاكم وأمره هو النّافذ..أمّا ما يتعلّق بالجيش والعلاقات الدوليّة فهذه من الأمور التي يغلب عليها السريّة وهي من اختصاص الخليفة، لذلك لا يلاحقها ولا يتابع تنفيذها إلاّ إذا طلب منه الخليفة أن يتابع شيئا منها، فإنّه يلتزم بما طلبه منه ولا يلاحق غيره..وأمّا العلاقات مع الرعيّة من حيث الرّعاية والطلبات والتظلّم فإنّها من شأن الخليفة أو نائبه وليست من شأن معاون التّنفيذ، فلا يقوم بالملاحقة إلاّ فيما يطالبه الخليفة بملاحقته منها، لأنّ عمله بالنّسبة إليها هو الأداء وليس الملاحقة..

شواهد من السّيرة والخلافة الرّاشدة

ما هي الأدلّة الشرعيّة على انبثاق جهاز وزير التّنفيذ من العقيدة الإسلاميّة واقعا وصلاحيّات..؟؟ إنّ هذا الجهاز هو من الأجهزة التي أقامها الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في دولته بالمدينة كما أشرنا، وكان على عهده يُسمّى (الكاتب)، وقد اضطلع في زمنه بنفس المهام المبيّنة آنفا وتواصل ذلك مع الخلفاء الرّاشدين، وسنقدّم فيما يلي بعض الشّواهد على ذلك من هاتين الفترتين اللتين تحيلان على مصدري تشريع (السنّة وإجماع الصّحابة)..فمن الأمثلة على العلاقات الدوليّة: صلح الحديبيّة، وكتابه صلّى الله عليه وسلّم إلى هرقل وردّ هرقل عليه، وكتاب أهل منبج لعمر بن الخطّاب وردّه عليه. ومن الأمثلة على الجيش أو الجند كتاب أبي بكر إلى خالد بن الوليد يأمره بالمسير إلى الشّام، واستمداد أجناد الشّام لعمر وكتابه إليهم..ومن الأمثلة على أجهزة الدّولة الأخرى غير الجيش كتابه صلّى الله عليه وسلّم في العشر إلى معاذ بن جبل، وكتابه إلى المنذر بن ساوى في الجزية، وكتاب أبي بكر إلى أنس في الصّدقة، وكتاب عمر بن الخطّاب إلى عمرو بن العاص عام الرّمادة، وكتاب محمّد بن أبي بكر إلى عليّ بن أبي طالب بشأن المرتدّين وردّه عليه..ومن الأمثلة على الكتب الموجّهة إلى الرعيّة بشكل مباشر كتاب الرّسول لأهل نجران، وكُتُبُ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم إليهم، وكتابه صلّى الله عليه وسلّم لتميم الدّاري، وكتاب أبي بكر للدّاريّين من بعده. وممّن اشتُهروا بخطّة الكاتب (وزير التّنفيذ) في الفترتين النبويّة والرّاشدة نذكر (زيد بن ثابت ـ عبد الله بن الأرقم ـ محمّد بن مسلمة ـ عليّ بن أبي طالب ـ المعيقيب ـ المغيرة بن شعبة ـ حمران مولى عثمان ـ عبد الله بن أبي رافع..). وبذلك يكون قد تضافر مصدران تشريعيّان (السنّة والإجماع) في التّدليل على انبثاق جهاز وزير التّنفيذ ـ واقعا وصلاحيّات ـ من العقيدة الإسلاميّة..

أ, بسّام فرحات

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )