أضواء على أجهزة دولة الخلافة: المعاونون (وزراء التّفويض)

أضواء على أجهزة دولة الخلافة: المعاونون (وزراء التّفويض)

قرّاء جريدة التّحرير الأفاضل..ننطلق معكم في تفصيل القول في الجهاز الثّاني من أجهزة دولة الخلافة ألا وهو جهاز المعاونين أو وزراء التّفويض ـ واقعا وشروطا وصلاحيّات وأعمالا وتعيينا وعزلا ـ فواقع المعاونين مطلقا أنّهم الوزراء الذين يعيّنهم الخليفة معه ليعاونوه في تحمّل أعباء الخلافة والقيام بمسؤوليّاتها، فكلّما كبرت الدّولة وتوسّعت كثرت أعباؤها وتعسّر على الخليفة وحده الاضطلاع بمسؤوليّاتها الجسام، لذلك يحتاج إلى من يعاونه في حملها والقيام بها..ولا يصحّ تسميتهم (وزراء) دون تقييد، حتّى لا يلتبس مدلول الوزير في الإسلام مع مدلوله في الأنظمة الوضعيّة الحاليّة على الأساس الدّيمقراطيّ الرّأسماليّ العلمانيّ الذي يُجزّأ فيه الحكم ويُفرّق بين الرّئيس والوزراء أو مجلس الوزراء ويُعدّ فيه الوزير جزءا لا يتجزّأ من الحكم..فالوزراء في الإسلام نوعان، وزراء تفويض ووزراء تنفيذ: أمّا وزير التّفويض أو معاون التّفويض فهو الوزير الذي يعيّنه الخليفة ليتحمّل معه مسؤوليّة الحكم والسّلطان فيقلّده عموم النّظر والنّيابة ويفوّض إليه تدبير الأمور برأيه وتنفيذها حسب اجتهاده وفق أحكام الشّرع..فكلمة (الوزير) في منظومة الحكم الإسلاميّة يُراد بها المعنى اللغويّ وتعني المعين أو المساعد، وقد جاءت في الحديث النّبويّ الشّريف بهذا المعنى، قال صلّى الله عليه وسلّم (وزيراي من السّماء جبريل وميكائيل ومن الأرض أبو بكر وعمر) أي معيناي ومساعداي..وبما أنّ كلمة (وزير) جاءت في الحديث مطلقة غير مقيّدة فإنّها تشمل أيّ معونة وأيّ مساعدة في أيّ أمر من الأمور بما في ذلك إعانة الخليفة في أعباء الخلافة ومسؤوليّاتها وأعمالها، وبما أنّها وردت بصيغة المثنّى (وزيراي) فيفهم منها أيضا جواز تعدّد المعاونين..ووزارة التّفويض من خطط الحكم لأنّ عمل المعاون من أعمال الحكم، لذلك يُشترط فيه ما يُشترط في الخليفة أي في الحاكم، فيجب أن يكون رجلا حرّا مسلما بالغا عاقلا عدلا قادرا من أهل الكفاية فيما وُكّل إليه من أعمال..وبما أنّه حاكم فإنّ عمل معاون التّفويض منحصر في رعاية الشّؤون، فلا يُخصّص بأيّة دائرة من الجهاز الإداريّ لأنّ الإداريّين أجراء لا حكّام، وليس معنى ذلك أنّه ممنوع من مزاولة الأعمال الإداريّة، بل معناه أن لا يختصّ بأعمال الإدارة بل له عموم النّظر..

تقليد معاون التّفويض

بالعودة إلى مناط الحكم في الفترتين النبويّة والرّاشدة والتّدقيق في أعمال المعاون أثناءهما، نستشفّ أنّ المعاون يمكن أن يُكلّف بمسائل معيّنة يكون له عموم النّظر فيها أو بكلّ المسائل وبعموم النّظر فيها..كما يمكن أن يُعيّن في مكان محدّد يكون له عموم النّظر فيه أو في عدّة أمكنة بعموم النّظر فيها أيضا: فقد ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه (بعث عمر ابن الخطّاب على الصّدقة) وأنّه حين رجع من عمرة الجعرانة (بعث أبا بكر على الحجّ)..فأبو بكر وعمر (رض) كانا على عهد الرّسول الأكرم يكلّفان بعموم النّظر في أعمال معيّنة رغم أنّهما معاونان مقلّدان عموم النّظر والنّيابة كما تقتضيه وزارة التّفويض..وقد تواصلت نفس الحال مع الخلفاء الرّاشدين حيث ولّى أبو بكر الصدّيق معاونه عمر على القضاء في بعض الفترات، كما وكلّف عمر معاونَيْه عليّا وعثمان ببعض المسائل الجزئيّة رغم أنّ ثلاثتهم مقلّدون أصلا عموم النّظر والنّيابة في جميع الأعمال..وعليه يُستفاد من السّيرة وإجماع الصّحابة أنّ الخليفة يقلّد معاونه ابتداء في كلّ أرجاء الدّولة مع عموم النّظر في كلّ الأعمال، ولكن يجوز له أن يخصّصه بمكان أو عمل محدّد كما يجوز له أن يضع أحد معاونيه موضع الآخر وأن يصرف أحدهم إلى العمل الفلانيّ والآخر إلى العمل العلاّني على الوجه الذي تقتضيه معاونة الخليفة دون أن يحتاج إلى تقليد جديد..وحيث إنّ حاجة الخليفة متأكّدة ـ مع اتّساع الدّولة ـ لأكثر من وزير، وحيث أنّ إمكانيّة التّداخل بين مهامّهم مطروحة بجديّة بحكم تمتّع كلّ منهم بعموم النّظر والنّيابة، فإنّ حزب التّحرير يتبنّى الآتي: من حيث التّقليد، يُقلّد المعاون ابتداء عموم النّظر والنّيابة في كلّ أرجاء الدّولة..من حيث الأعمال: يكلّف المعاون بعمل في جزء من الدّولة، أي أنّ الولايات تقسّم بين الوزراء فيكون هذا معاون الخليفة في المشرق أو المغرب والآخر معاون الخليفة في الهند أو آسيا الوسطى وهكذا..من حيث النّقل: يُنقل الوزير من مكان إلى آخر ومن عمل إلى آخر دون الحاجة إلى تقليد جديد بل بتقليده الأوّل، لأنّ أصل تقليده معاونا يشمل كلّ عمل..من حيث التّعيين والعزل: للخليفة وحده حقّ تعيين وزراء التّفويض وعزلهم، وتنتهي ولايتهم بوفاة الخليفة أو عزله ونهاية فترة الأمير المؤقّت دون أن يحتاجوا إلى قرار عزل، لأنّ ولايتهم في حكم المنتهية بذهاب الخليفة الذي عيّنهم، فلا يستمرّون في خطّتهم إلاّ بتقليد جديد من الخليفة الجديد..

صلاحيّات معاون التّفويض

يتمثّل عمل معاون التّفويض في أن يرفع إلى الخليفة ما يعتزمه من تدبير ويطلعه على ما أمضاه من تدابير وأنفذه من ولاية وتقليد، وله أن ينفّذ إجراءاته ما لم يعترض عليها الخليفة، وبذلك لا يصير في صلاحيّاته كالخليفة..وهذه الصلاحيّات مستمدّة من واقع المعاون بوصفه نائبا عن الخليفة فيما كُلّف به: فالنّائب يقوم بالعمل نيابة عمّن أنابه فلا يستقلّ عنه، بل يطلع الخليفة على كلّ الإجراءات وينفّذ حسب ما يرى الخليفة..وليس معنى ذلك أن يستأذنه في كلّ جزئيّة من الجزئيّات ـ فهذا يخالف واقع المعاون وما يتمتّع به من عموم النّظر والنّيابة ـ بل يذاكره في الأمور ويعرض عليه شؤون الرعيّة واحتياجات الدّولة وأولويّاتها ـ مجرّد عرض ـ بحيث يطّلع عليها ويقف على ما تعنيه، ويكون ذلك بمثابة الضّوء الأخضر للتّنفيذ من غير حاجة لإذن مسبق..ولكن إذا صدر الأمر من الخليفة بعدم تنفيذ هذه الإجراءات فلا يصحّ للمعاون أن ينفّذها: فمن واجب الخليفة أن يتصفّح أعمال معاون التّفويض وتدبيره للأمور ليقرّ منها الصّواب ويستدرك الخطأ، لأنّ تدبير شؤون الأمّة موكول للخليفة وحده ومحمول على اجتهاده هو كما يتّضح من حديث المسؤوليّة عن الرعيّة، قال صلّى الله عليه وسلّم (الإمام راع وهو مسؤول عن رعيّته)..فتدبير أمور الرعيّة موكول إلى الخليفة أمّا معاون التّفويض فليس مسؤولا عن الرعيّة بل مسؤول فقط عمّا يقوم به من أعمال، وتبقى المسؤوليّة عن الرعيّة للخليفة وحده، لذلك كان واجبا عليه أن يتصفّح أعمال المعاون وتدابيره حتّى يضطلع بمسؤوليّته عن الرعيّة..كما أنّ معاون التّفويض قد يخطئ، ولكي يستدرك الخليفة الخطأ الذي يقع منه لا بدّ أن يتصفّح جميع أعماله..فمن أجل هذين الأمرين (الاضطلاع بمسؤوليّة الرعيّة ـ استدراك خطأ معاون التّفويض) وجب على الخليفة أن يطّلع على جميع أعمال المعاون..

بين الخليفة والمعاون

إنّ عمل معاون التّفويض يُعتبر في الأصل عملا للخليفة، فيجوز له فيما أنيب فيه: أن يحكم بنفسه وأن يقلّد الحكّام كما يجوز ذلك للخليفة، لأنّ شروط الحكم فيه معتبرة..ويجوز له أن ينظر في المظالم ويستنيب فيها، لأنّ شروط المظالم فيه معتبرة..ويجوز له أن يتولّى الجهاد بنفسه وأن يقلّد من يتولاّه ،لأنّ شروط الحرب فيه معتبرة..ويجوز له أن يباشر تنفيذ الإجراءات التي اتّخذها وأن يستنيب في تنفيذها، لأنّ شروط الرّأي والتّدبير فيه معتبرة..إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ ما قام به المعاون لا يصحّ للخليفة أن يلغيه مادام قد رُفع إليه واطّلع عليه، بل معناه أنّ المعاون يملك ما للخليفة من صلاحيّات فيما كُلِف به من أعمال، ولكن بالنّيابة عن الخليفة لا بالاستقلال عنه..فيجوز للخليفة أن يعارض المعاون في ردّ ما أمضاه وإلغاء ما قام به من أعمال، ولكن في حدود ما يجوز للخليفة أن يرجع عمّا يقوم به هو نفسه من أعمال: فإن كان المعاون قد نفّذ حكما على وجهه أو وضع مالا في حقّه وعارضه الخليفة في ذلك بعد التّنفيذ فلا قيمة لمعارضته، بل يُنفّذ عمل المعاون ويُردّ رأي الخليفة واعتراضه، لأنّه بالأصل رأيه ولا يصحّ له أن يرجع عن رأيه في هذه الحال أو يلغي ما نفّذه، فلا يصحّ له أن يلغي عمل معاونه فيها..أمّا إن كان المعاون قد قلّد واليا أو موظّفا أو قائد جيش أو غيرهم، أو كان قد وضع سياسة اقتصاديّة أو خطّة عسكريّة أو مخطّطا للصّناعة أو ما شاكل ذلك، فإنّه يجوز للخليفة أن يلغيه، لأنّه ـ وإن كان يُعتبر رأي الخليفة ـ ولكنّه ممّا يجوز للخليفة أن يرجع عنه لو قام به هو نفسه، فيجوز له أن يلغي عمل نائبه فيه..والقاعدة في ذلك هي: كلّ ما جاز للخليفة أن يستدركه من فعل نفسه جاز له أن يستدركه من فعل معاونه، وكلّ ما لم يجز للخليفة أن يستدركه من فعل نفسه لا يجوز له أن يستدركه من فعل معاونه..وبذلك لا يحصل التّعارض بين قرارات وإجراءات المعاون وقرارات وإجراءات الخليفة، ولا يصير المعاون في صلاحيّاته كالخليفة..

أ, بسّام فرحات

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )