إرهاب وانتخاب: الخميس الأسود بين الفبركة والتوظيف السياسي

إرهاب وانتخاب: الخميس الأسود بين الفبركة والتوظيف السياسي

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: يبدو أنّ تونس قد تخصّصت في صناعة الوضعيّات السياسيّة القابلة للتوظيف و(فتّقت) مواهبها المحليّة و(الدّاخلية) والمخابراتيّة للاستثمار في منجم الإرهاب العدّ والواعد من أجل تنفيذ أجندات خارجيّة معادية مستهدفة لهويّتها الإسلاميّة ومقدّراتها وسيادتها بما يفضي إلى رهنها ـ أرضًا وبشرًا وثقافةً واقتصادًا ـ وتذويبها بأحماض استعماريّة فتّاكة… فمنذ أيّام طفت مسألة الإرهاب مجدّدًا على ساحة الأحداث السياسيّة في تونس محفوفةً هذه المرّة بجرعة زائدة من اللامبالاة الشعبيّة والتّساؤلات المشكّكة والتّغريدات المستهزئة والتدوينات الكاشفة الفاضحة المنسوبة أحيانًا إلى أطراف من أعلى هرم وزارة الدّاخلية نفسها (النقابي الأمني السّابق هيكل دخيل)… هذه السّابقة الخطيرة تعكس بجلاء تخبّط الحكومة والمؤسّسة الأمنية وارتجاليّتهما، وتململ العناصر المتورّطة في صناعة الإرهاب وعدم قدرتهم على السكوت والتستّر، كما تعكس أيضًا درجة الوعي السياسي التي ارتقى إليها الشعب التونسي نتيجة تمرّسه بالأحداث وتأثّره بالكمّ الهائل من التحاليل السياسيّة التي ضخّها حزب التحرير وشبابه على مسامعه منذ اندلاع الثورة،ناهيك وقد أثبتت الوقائع صحّتها وصدقها…

الخميس الأسود

مع بداية العدّ التّنازلي للانتخابات التّشريعية والرّئاسية وكما كان متوقّعًا عند من له أدنى فراسة وحس سياسي، فُتحت حنفيّة الإرهاب والتّفجيرات الانتحاريّة على مصراعيها دون مقدّمات: فقد استفاق التّونسيّون يوم الخميس 27/06/2019 على وقع ثلاث عمليّات إرهابيّة، أولاها بجبل عرباطة من ولاية قفصة واستهدفت فجرا محطّة الإرسال الإذاعي والتلفزيوني بوابل من الطلق النّاريّ مخلّفة  بعض الأضرار الماديّة…أمّا العمليّتان الأخريان فقد شهدتهما العاصمة مع طلوع النّهار ونفّذهما إرهابيّان بشكل متزامن: حيث أقدم الأوّل على تفجير نفسه بالقرب من دوريّة أمنيّة بنهج شارل ديغول قبالة سفارة فرنسا، فيما اختار الثّاني تفجير نفسه بعد نصف ساعة عند الباب الخلفي لإدارة الشّرطة العدليّة بالقرجانيأي في عقر دار فرقة مكافحة الإرهاب في حركة استفزازيّة متحدّية…وقد أسفرت العمليّتان عن مقتل عون أمن بالشرطة البلديّة وبعض الإصابات المتفاوتة الخطورة في صفوف الأمنيّين والمدنيّين، وكالعادة فقد تبنّاهما تنظيم الدّولة الإسلاميّة (داعش)… هذا وقد شهد الأسبوع الموالي حركات ارتداديّة لزلزال الخميس الأسود حيث شنّت الوحدات الأمنيّة حملة من المداهمات للأوكار الإرهابيّة ومن الإيقافات في صفوف الأشخاص المشبوهين بلغت ذروتها ليلة الثلاثاء 02/07/2019 بحي الانطلاقة وأسفرت عن تصفية (العقل المدبّر لهجومي العاصمة): فعلى إثر محاصرته من قبل دوريّة تابعة لمكافحة الإرهاب عمد المدعو (أيمن السميري) إلى تفجير نفسه في محطّة المترو باستعمال حزام ناسف دون تسجيل أيّة خسائر بشرية…وبعد تمشيط المنطقة عثرت الوحدات الأمنية صباح الإربعاء على حوالي 12 كلغ من المتفجّرات مدفونة تحت شجرة بساحة جامع الغفران بالانطلاقة وقد تبيّن أنّها نفس الموادّ المستعملة في التّفجيرين…وقبل الانخراط في تحليل سيناريوهات الرّواية الرّسمية ـ توقيتًا وأطرافًا وأهدافًا ـ من المفيد للبحث أن ننطلق من هذه المقدّمة النّظرية حول الإرهاب في تونس واقعًا وغايةً وخلفيّةً وأدوات…

صناعة الإرهاب

لا نرانا نجانب الحقيقة إذا اعتبرنا أنّ الإرهاب في تونس رأسمال سياسي ورصيد انتخابي ومجال استثمار واعد: وهو بصفاته تلك بمثابة طوق النّجاة بالنسبة إلى الحكومات المنبوذة المتهالكة الكسيحة المفلسة المرتهنة للغرب, التي تداولت على السّلطة بعد الثورة وفشلت في كسب ثقة الشّعب وعجزت عن حشده وراءها…لذلك تراها كلّما انحشرت في عنق الزجاجة وأعياها المتاح السياسي وأحرجتها الأمّة التوّاقة إلى الالتحام بعقيدتها، تلوذ بشعار الإرهاب وتستثمر فيه: أوّلاً كرصيد سياسي وبرنامج انتخابي يغطّي بطلان خياراتها وتهافت طروحاتها وافتقادها للبديل برداء محاربة الإرهاب…ثانيًا كشمّاعة تعلّق عليها فشلها في الحكم وعجزها عن رعاية الشؤون وتبرّر بها نكثها لوعودها الانتخابيّة بمنطق (خانها ذراعها قالت إرهاب)… ثالثًا كفزّاعة تشوّه بها المشروع الإسلامي وتنفّر الناس منه وتدفعهم غريزيًّا للاصطفاف خلف حكومة العمالة بحثًا عن الأمان ولقمة العيش…رابعًا: كمحوّل لوجهة الرّأي العامّ نحو مسائل جانبيّة ثانويّة للتّغطية على جريمة ما وتمكينها من المرور في الزّحام… إلى غير ذلك من الإمكانات التي يتيحها منجم الاستثمار السياسي في الإرهاب فهو قطعة أساسيّة في رقعة شطرنج التبعيّة والارتهان…

لذلك فإنّه في تونس وبحكم عدم وجوده كإفراز طبيعي للمجتمع، فقد أُوجِد ابتداءً من عدم وصُنع في الدّوائر المخابراتية بما تحيل عليه الصّناعة من افتعال واستحداث واحتطاب وإذكاء ورعاية واحتضان وتسليح وتدريب وتوظيف وتستُّر وتصفية واستدراج واستقطاب… ناهيك وأنّ واقع التيار السلفي يُسهّل هذه المأموريّة ويغري بها: فهو ـ بحكم غموض الفكرة وانعدام الطّريقة وتعدّد القيادات وغياب النّاحية التكتُّلية ـ سهل الاختراق والتسيير والتحريك والتوجيه والتوظيفبمنطق المثير والاستجابة لتحقيق أجندات سياسيّة محليّة أو أجنبيّة…وقد تكفّلت بهذه المأموريّة على أحسن وجه وحدة (أمنيّة) إجراميّة يديرها (الكينق) كمال لطيّف من مقرّه بسكّرة بمساعدة وزيري الداخليّة الأسبقين ناجم الغرسلّي ولطفي براهم والعقيد بإدارة الاستعلامات خالد حنيش الملقّب بـ(النمر)…وتتكوّن هذه الوحدة من عدّة خلايا ترتقي إلى مصافّ العصابات المافيوزيّةعلى غرار خليّة الاختراق وخليّة الترصّد وخليّة الاغتيالات وكتيبة عقبة ابن نافع التي تتقمّص دور الإرهابيّين المفترضين وتقوم بالعمليّات الإرهابيّة باسمهم ونيابة عنهم (وقيِّد علْ إرهاب)…

إرهاب حسب الطّلب

فالإرهاب في تونس كظاهرة سياسية هو صناعة مخابراتية بامتياز ـ نشأةً وتمويلاً وتدريبًا وتوظيفًا ـ صُنع بأعين المخابرات المحليّة والأجنبيّة ووحيها، وبرعاية الحكومات المتعاقبة وحمايتها وتستُّرها، والأدلّة على ذلك لا تدخل تحت الحصر…ودونك مثلاً التضارب في الأقوال والتصريحات إثر كلّ عمليّة بين الموقف الرّسمي للحكومة وموقف الجهات الأمنيّة أو شهود العيان, هذا التّضارب قد يبلغ أحيانًا حدّ الشطط بما يؤهّله لقلب المعطيات (حذف حلقة من برنامج لاباس سنة 2015 بقرار من النّيابة العموميّة)…كذلك الحرص والإصرار على قتل المنفّذين أو المستهدفين بشكل يرقى إلى عمليّة ممنهجة لإعدام شهود وإتلاف أدلّة، فمنذ أن انطلق مسلسل العمليّات الإرهابيّة لم يسجّل إلقاء القبض على ارهابيّ واحد حيًّا فهل هذا محض صدفة..؟؟ كذلك هالة التّهويل والشيطنة التي أُحيطت بها العمليّات الإرهابيّة وارتقت بالإرهابيين إلى مصافّ الأشباح وأبطال أفلام الحركة الأمريكيّة: فقد حوّلوا جبل الشعانبي إلى (طورا بورا شمال إفريقيا) التي تأوي جماعات إرهابيّة جهاديّة مسلّحة جيّدًا عالية التدريب ومتحصّنة داخل كهوفه ومغاوره…ورغم محاصرة الجبل بجحافل من الجنود إلاّ أنّ لهؤلاء الإرهابيّين القدرة على اختراق هذا الطّوق العسكري بكلّ سهولة (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) وذلك متى شاؤوا وكيفما شاؤوا ليضربوا حيث شاؤوا في واضحة النّهار وتحت أعين (حرّاس المكان)… كذلك هناك إحساس أنّ هذه العمليّات الإرهابيّة تقع حسب الطّلب و (بالتليكوموند): فهو لا يضرب إلاّ متى وكيف وحيث تريد الحكومة كمًّا وحجمًا ونوعيّةً وتداعيات، أي لا يضرب إلاّ عندما تقتضي مصلحة الحكومة ذلك، عندما تكون في ورطة تتطلّب تصفية بعض العناصر المناوئة لمشروع التوافق (شكري بالعيد ومحمّد البراهمي)…أو لتحويل أنظار الشارع عن موضوع حسّاس (عمليّة شارع الحبيب بورقيبة الانتحارية وانشقاق نداء تونس)…أو لدفع الشعب غريزيًّا للتكتّل وراء الحكومة بحثًا عن الأمن والأمان (مذبحة الجنود في رمضان 2014)… أو لاتّخاذه شمّاعة تُعلّق عليها فشلها أو إفشال أعدائها (ما حصل للترويكا)…أو لتشويه المشروع الإسلامي وتنفير النّاس منه وإيجاد المبرّرات للتضييق على العمل السياسي المبدئي القائم على أساس العقيدة الإسلاميّة والذي لا يمثّله في تونس إلاّ حزب التحرير…

إرهاب وانتخاب

هذا هو عمومًا السياق السياسي للظاهرة الإرهابية في تونس منذ أن انطلق مسلسلُها في ماي 2011، سياق الافتعال والاستخدام والتوظيف والرّكوب، ولم تَشُذّ عمليّات الخميس الأسود وتوابعُها عن هذا الخطّ العريض وإن تفرّدت وتميّزت بدوافعها وغاياتها الذّاتية…فبصرف النّظر عن الأسباب المستهلكة المسوَّقة إعلاميًّا والمعدودة من تحصيل الحاصل (إفشال الموسم السياحي ـ عرقلة مسار الانتقال الدّيمقراطي ـ هزّ استقرار البلاد ـ ضرب التّجربة الديمقراطية التونسيّة…) فإنّ للموجة الإرهابية الأخيرة دواعي نوعيّة خاصّة: فقد تزامنت مع محطّة سياسيّة هامّة في تاريخ البلاد التي تستعدّ نهاية السّنة لتنظيم ثاني انتخابات رئاسيّة وثالث انتخابات تشريعيّة منذ ثورة 2011… هذا الاستحقاق الانتخابي تزامن أوّلا مع انخرام في المشهد الحزبي حيث مرّ بحالة من التشتّت والانقسام والصراعات البينيّة على الزعامة، فقد انشطر الحزب الحاكم (نداء تونس) ودخل شقّاهُ (شقّ حافظ قايد السّبسي وشق الحمّامات) في صراعات طاحنة على وراثة النّداء التاريخي، وتصدّعت الجبهة الشعبيّة وتشظّى اليسار إلى فقاقيع حزبيّة وانخرط كلّ منالوطد وحزب العمّال في أتّون (صراع طبقيّ حول باتيندا الجبهة)…وظهرت على السّاحة أحزاب جديدة و(جمعيّات حزبيّة) مسنودة ماديّا وإعلاميّا وغير ملتزمة بالتقاليد والأعراف الانتخابيّة بحيث صُنِّفت من طرف رئاسة الحكومة (بانديّة السّياسة في البلاد) على غرار جمعيّة ألفة الترّاس (عيش تونسي) وحزب نبيل القروي (صاحب قناة نسمة وجمعيّة خليل تونس الخيريّة) وبعض القائمات الثوريّة والإسلاميّة (ائتلاف الكرامة ـ شباب يتحدّى ـ تونس أخرى…)…كما تزامن الاستحقاق الانتخابيّ ثانيا مع انقلاب جذريّ في نوايا تصويت التونسيّين بشكل يُنذر بانخرام المشهد السياسيّ وبفقدان الأحزاب التقليديّة والشخصيّات المتنفّذة لمقاليد الحكم والسلطة مقابل صعود تشكيلات جديدة قد تدفع بالبلاد نحو المجهول…

أجندا سياسيّة

فاستنادا إلى استطلاعات الرأي يبدو المشهد الانتخابيّ التونسيّ على وشك الدخول في مرحلة تغيير جذريّ تضع في  الصّدارة أحزابا جديدة وشخصيّات غير مُتوقَّعة على غرار نبيل القروي وحزبه وعبير موسي وحزبها وقائمات (عيش تونسيّ) في المقابل تقهقر رئيس الحكومة يوسف الشّاهد وحزبه…وممّا يُعمّق الإشكال أنّ بعض التشكيلات الصّاعدة غير متجانسة ولاء وعمالة مع السلطة السياسيّة بما قد يزجّ بالبلاد في أتّون صراع دوليّ يضع كلاّ من أمريكا وفرنسا على الخطّ في منافسة صاحبة الامتياز (بريطانيا) ناهيك وأنّ جمعيّة (عيش تونسيّ) مموّلة كليّا من فرنسا وبسخاء (50 مليارا) ولا نخالها (تصطاد لربّي) هذا دون أن ننسى تربّص أمريكا بتونس انطلاقا من قواعدها الجديدة بليبياحفتر…إزاء هذه الوضعيّة الخطيرة عمد (الوريث الشرعي للحكم) يوسف الشّاهد ومن ورائه بريطانيا إلى إجراءين حمائيّين:الأوّل سياسيّ ويتمثّل في تعديل القانون الانتخابيّ بحيث يصبح على مقاس حزب (تحيا تونس) ويُقصي الأطراف المناوئة من السباق الانتخابيّ (قلب تونس ـ الحزب الدستوريّ الحرّ ـ عيش تونسيّ) ويمكّن الشّاهد من وراثة نفسه…أمّا الإجراء الثّاني فمخابراتيّ موكول إلى الدّولة العميقة والحكومة الموازية التي يرأسها (الكينغكمال لطيّف) وزبانيّته ويتمثّل في افتعال أحداث وخلق وضعيّات سياسيّة متأزّمة للدّفع نحو إيجاد حالة من الفراغ السياسيّ وتعطيل الأجندا الانتخابيّة وتأجيل موعد الانتخابات حتّى يصبح رجل بريطانيا (الشّاهد) وحزبه (تحيا تونس) جاهزين لخوض الاقتراع بنجاح…

هذا تحديدا ما يبرّر العمليّات الإرهابيّة الأخيرة:فالأجندا السياسيّة الحاليّة للإرهاب في تونس معدّلةعلى ساعة الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة, وقد علّق النقابيّ الأمني السّابق (هيكل دخيل) عبر موقعه بما نصّه (سيُعاد سيناريو تصفية شكري بلعيد مع عبير موسي وتُلفّق القضيّة لحركة النهضة لإدخال البلاد في دوّامة العنف السياسيّ وتسليم الحكم للجيش) وأضاف (انتظروا إقالات لقيادات عسكريّة وأمنيّة شريفة هذه الأيّام ليخلو الجوّ للعصابة…رئيسكم المقبل ليس الشّاهد ولا الباجي ولا الغنّوشي)…إزاء هذه الوضعيّة الصّادمة لا يسعنا إلاّ أن نتساءل بحرقة:هل هذه دولة أم غابة..؟؟ وهل هؤلاء طاقم حكم أم إحدى عصابات المافيا..؟؟

أ.بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus (0 )