إعلان الجمهوريّة مطلب سياديّ تونسيّ أم مناورة استعماريّة مسمومة..؟؟

إعلان الجمهوريّة مطلب سياديّ تونسيّ أم مناورة استعماريّة مسمومة..؟؟

حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال :في ظلّ عزوف رسميّ عن إحيائها حدادا على وفاة الباجي قايد السبسي، مرّت بنا هذه الأيّام الذكرى (62) لإعلان الجمهوريّة: فبتاريخ 25/07/1957 قرّر أوّل مجلس تأسيسيّ تونسيّ إلغاء ما أسماه (النظام الملكيّ) وإعلان النظام الجمهوريّ على أنقاضه، وهو حدث مفصليّ بامتياز في تاريخ تونس المعاصر مشحون بالرمزيّات المعادية للإسلام بما يبوّئه مرتبة الجريمة النكراء في حقّ هويّة البلاد والعباد وانتمائهم الحضاري والسياسيّ…

ورغم أنّ السلطة في تونس ما فتئت منذ الاستقلال المزعوم وطيلة أكثر من ستّة عقود تضفي على الديمقراطيّة والنظام الجمهوريّ هالة من القداسة ترتقي بهما إلى مصافّ الأصنام و(التّابوات) إلاّ أنّها أدخلت تحويرات جذريّة على مصطلح (جمهور) تناولته بالتضييق والتوسعة :فقد ضيّقت فيه مضمونا بحيث أضحى حكرا على العلمانيّين فحسب فيما أقصِيَ الإسلاميّون من الوسط السياسيّ واستُثنوا من النشاط والحكم ،ثمّ تدحرج بها التضييق إلى حصر الجمهور في الفقراء والمعوزين (مخزون نبيل القروي الانتخابيّ)… كما وسّعت من نطاق المصطلح شكلا بحيث تجاوز امتداده الجغرافيّ (حدود الوطن) ليعانق (الأوربة والعولمة) بما انعكس على القائمات الانتخابيّة الحاليّة :فبعضها محسوب على فرنسا (عيش تونسي..) وأخرى على أمريكا (مشروع تونس..) هذا إلى جانب (السواد الانتخابيّ)المحسوب على بريطانيا… وعليه فمن المنعش للذاكرة التونسيّة الأصيلة أن نعيد تحقيق مناط إعلان الجمهوريّة ـ ظرفيّة ومضمونا وسياقات ومآلات ـ وأن نحاكمه من زاوية العقيدة الإسلاميّة وما انبثق عنها من منظومة حكم…فما هي مقوّمات النظام الجمهوريّ وما مدى انطباقها على نظام الحكم في الإسلام..؟؟ ما هي شحنة الرمزيّات العقائديّة والسياسيّة التي يحيل عليها إعلان الجمهوريّة..؟؟ ثم هل كان هذا الإعلان فعلا مطلبا سياديّا تونسيّا صرفا (تجسيدا لإرادة الشعب كما يزعمون) أم مناورة استعماريّة للالتفاف على هويّة البلاد وانتمائها الحضاريّ والسياسيّ..؟؟

في النّظام الجمهوري

إنّ النظام الجمهوريّ هو تحديدا نظام حكم ،فالجمهوريّة هي وصف لطبيعة نظام الحكم في المنظومة الرأسماليّة الديمقراطيّة : ذلك أنّ الرأسماليّة مبدأ أي فكرة كليّة تنبثق عنها أو تُبنى عليها جميع أنظمة الحياة بما في ذلك نظام الحكم…هذا الأخير يمكن تسميته بطريقتين ،إمّا نسبة إلى طبيعة النّظام أي آلية انتقال السلطة فيه بأغلبيّة أصوات جماهير الشعب فيقال (نظام جمهوريّ) ،وإمّا نسبة إلى أساس النّظام أي كيفيّة تجسّد الحكم بأن يحكم الشعب نفسه بنفسه فيقال (نظام ديمقراطيّ)…وقد نشأ هذا النظام في أوروبا مع الثورة الفرنسيّة أواخر القرن (18م) كردّ فعل غريزيّ وانعكاس شرطيّ ضديد لواقع تغوّل الثّالوث المتحكّم في مصائر الشعوب الأوروبيّة (المُلُكيّة ـ الإقطاع ـ الكنيسة) ،فكان من أبرز مُقوّماته : أوّلا نقل السيادة والسلطان من الملوك إلى الشّعب فيما سُمّي بالديمقراطيّة ،فصار الشعب هو الذي يشرّع ويضع قوانينه ويحسّن ويقبّح حسب هوى الأغلبيّة وما تمليه عليها مصالحها ويحكم نفسه بنفسه بمنأى عن أيّ تأثير خارجيّ بشريّ أو دينيّ ماورائيّ…وحتّى يتمكّن الشعب من الاضطلاع بهذا الدّور على أحسن وجه يجب أن يقطع مع حال الكبت والاستعباد والمصادرة وتكميم الأفواه التي كان يكابدها ،من هنا جاء المقوّم الثّاني للنظام الجمهوريّ ألا وهو الحريّات الأربعة : (الحريّة الشخصيّة حيث يفعل الرجل والمرأة ما يشاؤون دونما تقيّد بحلال أو حرام ـ حريّة الرأي بما في ذلك خدش الحياء العامّ والتهجّم على مقدّسات الأمّة والطعن في ثوابتها والتطاول على رجالاتها ـ حريّة الملكيّة بحيث يستغلّ القويّ الضعيف وتتوسّع الهوّة بين الأغنياء والفقراء ـ حريّة المعتقد من ردّة وإلحاد وانتقال بين الأديان دون ضابط بما يعنيه ذلك من فصل الدّين عن الحياة)… ثالث أهمّ مقوّمات النظام الجمهوريّ هو تفريق السلطّ وتجزئة الحكم ،أي الحكم بشكل جماعيّ درءا للديكتاتوريّة والتغوّل بحيث تتوزّع صلاحيّة الحكم على مؤسّسة كاملة (رئيس الجمهوريّة ووزرائه في النظام الرئاسيّ ،ومجلس الوزراء في النظام البرلمانيّ) وبذلك تراقب السلطة نفسها ذاتيّا كما يزعمون…هذا هو واقع النظام الجمهوريّ الديمقراطيّ ومدلوله ومقوّماته ،فأين هو من منظومة الحكم في الإسلام..؟؟

نظام الحكم في الإسلام

إنّ الإسلام ـ تماما كالرأسماليّة ـ مبدأ في الحياة أي فكرة كليّة ومنظومة كاملة شاملة لم تغادر كبيرة ولا صغيرة إلاّ أحصتها (ما فرطّنا في الكتاب من شيء) فهو عقيدة عقليّة سياسيّة روحيّة ينبثق عنها نظام ،وهو بهذا الشكل دين منه الحكم والاقتصاد والاجتماع…إلخ، أمّا نظام الحكم في الإسلام فهو (نظام الخلافة) الذي يُنصَّب فيه خليفة بالبيعة على كتاب الله وسنّة نبيّه للحكم بما أنزل الله ،وهو نظام فذّ مخصوص متفرّد متميّز عن سائر أشكال الحكم المعروفة في العالم من حيث الأساس الذي يقوم عليه ،والأفكار والمفاهيم والمقاييس والأحكام التي تُرعى بمقتضاها الشؤون ،والدستور والقوانين التي يضعها موضع التطبيق والتنفيذ ،و الشكل الذي تتمثّل به الدولة الإسلاميّة والمختلف عن جميع أشكال الحكم التي جرّبتها البشريّة عبر تاريخها…فهو ليس نظاما ملكيّا ولا نظاما امبراطوريّا ولا نظاما اتحاديّا أو فدراليّا، كما أنّه ليس نظاما جمهوريّا ديمقراطيّا بل يقف شامخا على طرف نقيض منه نائيا بنفسه عن نتانته وعفونته : فالسيادة في الإسلام للشرع والتشريع لله تعالى لا للشعب ولا يحقّ لبشر مهما علا شأنه أن يحلّل ويحرّم أو يحسّن ويقبّح أو ينسخ حكما شرعيّا واحدا أو يضع ولو قانونا جزئيّا من بنات فكره (إن الحكم إلاّ لله)…والإسلام لا يعترف بالحريّة بما هي انتفاء القيد والشرط عن القيام بالفعل ،فالحريّة شرعا هي نقيض العبوديّة ولا وجود في الإسلام للحريّات العامّة بل إنّ سلوك الانسان وتصرّفاته ومعتقده وآراءه وتملّكه كمّا وكيفا كلّها خاضعة للعقيدة الإسلاميّة ومقيّدة بالأحكام الشرعيّة لا تتعدّاها قيد أنملة…والقيادة أو الرئاسة في الإسلام فرديّة محضة ولا يجوز شرعا أن تكون جماعيّة ،ولا يتجزّأ الحكم ولا يتفرّق بين الرئاسات والوزارات ،فلا مجال في الإسلام لحكم المؤسّسة ولمجلس وزراء يملك الحكم بمجموعه ،بل يتمركز الحكم في شخص الخليفة فهو الدولة وهو المسؤول الأوّل عن رعاية الشؤون ومنه تنبثق كافّة السلطات ،تبايعه الأمّة لينوبها في تطبيق الشرع ويحكمها بما أنزل الله ،وله أن يتّخذ وزراء يستعين بهم على الاضطلاع بأعباء الخلافة…من هذا المنطلق فإنّ نظام الحكم في الإسلام (الخلافة) مناقض تمام المناقضة للنظام الجمهوريّ الديمقراطيّ الذي يُصَنَّف شرعا ضمن أنظمة الكفر لأنّه يُسند التشريع للبشر ويؤسّس للظلم والفساد والتفسّخ ويشجّع على التحللّ من الأحكام الشرعيّة باسم الحريّات العامّة ،ولأنّه يفرّق السلطة ويُجَزّئ الحكم في مخالفة صريحة لما أقرّه الإسلام نصّا وعملا وجرى عليه إجماع الصحابة والتزمت به الأمّة في جميع العصور…

خلفيّة إعلان الجمهوريّة

يمثّل نظام الحكم أهمّ عنصر من عناصر المنظومة المكوّنة للمبدأ ،فهو حاضنته وكيانه وجهازه التنفيذيّ والقناة التي يتجسّد عبرها عمليّا في واقع الحياة ،وهو بمثابة الطريقة للفكرة التي يقوم عليها المبدأ ،بحيث أنّه بدون نظام حكم يبقى المبدأ مجرّد فكرة طوباويّة خياليّة غير قابلة للتطبيق والتنفيذ…هذا الحكم لا ينسحب على الإسلام فحسب بل يتأكّد في حقّه بوصفه عقيدة عقليّة سياسيّة روحيّة ينبثق عنها نظام، أي دينا منه الدولة كحكم من أحكامه وجزء لا يتجزّأ منه وكطريقة شرعيّة ووحيدة لترجمته ميدانيّا…من هذا المنطلق فإنّ الكافر المستعمر في سعيه المحموم للقضاء على الإسلام وتفتيت وحدة المسلمين الصمّاء ،ركّز مجهوداته باتجاه إسقاط الدولة الإسلاميّة وإلغاء نظام الخلافة لأنّه يعلم علم اليقين أن لا وجود للإسلام خارج إطار كيانه السياسيّ وجهازه التنفيذيّ…ففتح لذلك جبهتين متوازيتين متكاملتين : الأولى عسكريّة ميدانيّة سعى من خلالها إلى غزو الأرض ومحو الدولة بالقوّة ،أمّا الثانية ففكريّة ثقافيّة سعى من خلالها إلى غزو العقول وإيجاد رأي عامّ لمشروعه الهدّام بين ظهرانيّ المسلمين أنفسهم في محاولة منه لطمس معالم نظام الحكم في الإسلام وتشويهه وتهميشه وفكّ ارتباطه بالشريعة وفصل الخلافة عن السلطنة وتضليل المسلمين بأباطيل من قبيل أنّ الإسلام لم ينصّ على نظام حكم وأنّ الرسول لم يؤسّس دولة وأنّ الشرع يمكن تطبيقه بأيّ قناة أخرى كالديمقراطيّة والجمهوريّة والدولة المدنيّة الوطنيّة…

تونس نموذجا

وقد كان للكافر المستعمر ما أراد بسقوط الدولة العثمانيّة سنة 1924م وما استتبع ذلك من نتائج كارثيّة لعلّ أشدّها فظاعة اندراس حكم الله من الأرض وانفراط عقد المسلمين وتمزّقهم إلى أكثر من خمسين كيانا تحت الاستعمار بالوكالة…في هذا الإطار وتنزيلا لهذا المناط على واقعنا اليوم ،فإنّ الاستعمارـ وقبل تسليم تونس شهادة ميلادها كدُويلة وطنيّة تابعة عميلة ـ سعى جاهدا إلى تزييف انتمائها وفكّ ارتباطها التاريخيّ بالدّولة الإسلاميّة والحيلولة دونها وتطبيق الشرع الإسلاميّ ثم ربطها بالغرب ربطا عُضويّا محكما…وقد تولّت الزمرة البورقيبيّة تنفيذ هذا المخطّط بالنيابة عنه على أحسن وجه : فادّعت ابتداء أنّ حكم البايات هو نظام ملكي تشويها وتضليلا بما ينفي عن الدولة الحسينيّة صفة الإيالة العثمانيّة الخاضعة لنظام الخلافة ،ثمّ عمدت إلى هذا النظام الملكي المُتوهّم فألغته وأرست على أنقاضه النظام الجمهوريّ ،فترتّب على ذلك آليّا اندراس أحكام الإسلام واستحالة تطبيق الشرع لاستبدال طريقة تطبيقه (الخلافة) بنظيرتها في المبدأ الرأسماليّ (النظام الجمهوريّ الديمقراطيّ)…من هذه الزّاوية بالذّات يجب أن ننظر إلى إعلان الجمهوريّة بوصفه حربا على الله ورسوله وانقلابا على الهويّة الإسلاميّة للبلاد وتزييفا لانتمائها الحضاريّ والثقافيّ وبترا لها عن جسمها وحيلولة دونها وتطبيقَ الإسلام…

انقلابُ المجلس التأسيسي

هناك تساؤل أخير يجدر بنا أن نقف عنده وأن نجيب عنه شهادة للتّاريخ وتبرئة لذمّة الشعب التونسيّ المسلم الأبيّ : هل كانت هذه الجريمة النكراء ـ حقيقة ـ مطلبا سياديّا تونسيّا صرفا وتعبيرا عن إرادة الشعب التونسيّ كما يُدّعى ويُرَوّجُ له إعلاميّا منذ ستّة عقود..؟؟ إنّ هذا الادّعاء محض افتراء ومجرّد تعويم لجريمة تاريخيّة شرعنة لها وتفصِّيا من مسؤوليّتها وذلك من وجهين…أوّلا : أنّ الشعب التونسيّ الغارق في الجهل والأميّة في ذلك التاريخ والبعيد كلّ البعد عن الثقافة الإسلاميّة الصافية النقيّة والفهم الصحيح للإسلام ،لا يمكن له أن يستوعب مفاهيم الحكم الغربيّة ومصطلحاتها على غرار (السيادة للشعب ـ الحريّة ـ الديمقراطيّة ـ الجمهوريّة ـ التفريق بين السلط ـ البرلمان ـ المجلس التأسيسيّ…) ولا أن يدرك تبعاتها على هويّته وعقيدته ،وإنّما وُضِعت على أفواهه وشفاهه من طرف العصابة البورقيبيّة والنخبة المتفرنسة ووُظّف لتمرير المشروع الاستعماريّ واستُخدِم كوقود لصراع دوليّ لا ناقة له فيه ولا جمل…ثانيا : أنّ المجلس التأسيسيّ الذي أصدر إعلان الجمهوريّة قد تجاوز صلاحيّاته وانحرف عن الهدف من إحداثه وزيّف إرادة الشعب التونسيّ واستنطقه بما لم ينطق عنوة واقتدارا خدمة للاستعمار ومشاريعه…فالمجلس القومي التأسيسيّ لم يكن عند نشأته يتمتّع بسلطة تسمح له دستوريّا وقانونيّا بإقرار ما يراه صالحا دون قيد أو شرط ،فقد حُدِّدت سلطته في الأمر العليّ المؤرّخ في 29/12/1955م بأنّها (سلطة تأسيسيّة فرعيّة مُقيَّدة مكلّفة بسنّ دستور لنظام ملكيّ دستوريّ) مع ملاحظة أنّ (ختم الدستور وإصداره والتصديق عليه يبقى من مشمولات الباي)…إلاّ أنّه ما راعنا بتاريخ 25 جويلية 1957 أنّ سلطة المجلس قد انقلبت ـ في حركة بلطجيّة ودون سابق إنذارـ إلى (سلطة تأسيسيّة أصليّة تتمتّع بنفوذ كامل مستمدّ من الشعب) قابضة على كلّ صلاحيّات السلطة التأسيسيّة دون قيد أو شرط بما مكّنها من تجاوز صلاحيّاتها والانقلاب على الباي بكلّ ما يحيل عليه من شحنة رمزيّة ثقافيّة وعقائديّة ثمّ إعلان الجمهوريّة وإطلاق يد بورقيبة وزمرته ،أمّا الشعب التونسيّ المغلوب على أمره فهو بريء من هذه الجريمة النكراء في حقّ هويّته وانتمائه الحضاريّ والسياسيّ…

أ. بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus (0 )