الأزمة الاقتصاديّة في تونس…الطّريق المسدود

الأزمة الاقتصاديّة في تونس…الطّريق المسدود

كثر الحديث عن الأزمة الاقتصاديّة في تونس غير أنّ كلّ من تحدّث فيها أجمعوا على أنّ أساس المشكلة في تونس قلّة الثروة بسبب قلّة الإنتاج وأنّ قلّة الإنتاج راجعة إلى:

  • كثرة الاعتصامات والاحتجاجات التي عطّلت الإنتاج في مناطق الثروة كتطاوين وقبلي وقرقنة وقفصة… وقد صرّح أحد المسؤولين أنّ تونس خسرت حرفاء مهمّين في مجال الفسفاط بسبب انقطاع التزويد الذي سبّبته الاحتجاجات.
  • عقليّة التواكل وقلّة المبادرة الفرديّة من النّاس في خلق مشاريع جديدة وتعويل الجميع على الدّولة في التشغيل.
  • ضعف نسب النّموّ. بسبب ضعف الدخل القومي، ويقولون أنّ المعروف أنّ نقطة واحدة في نسبة النموّ تخلق 16 ألف موطن شغل، وعلى ذلك فالحلّ عند الجميع أن نزيد نسبة النموّ بزيادة الإنتاج حتّى نزيد الثروة ونوجد مواطن شغل.

هذا الحديث مكرّر معاد منذ سنوات طويلة، وهنا نسأل ألم تكن نسب النموّ مرتفعة في عهد بن علي تتراوح بين 5 و6 في المائة؟ ونظريّا – حسب قولهم- أنّه في عهد بن علي كان يشتغل أكثر من 90 ألف طالب شغل كلّ سنة، وهذا ما تكذّب الأرقام. ثمّ أليس من أهمّ الأسباب المباشرة للثورة ارتفاع نسب البطالة وعجز بن علي وزمرته على ضمان الشغل حتى لأصحاب الشهائد العليا؟

يبدو أنّ جماعة الخبراء الاقتصاديين ينسون بسرعة ويعودون كلّ مرّة إلى نفس الاسطوانة. ويظهر أنّهم غير قادرين على التفكير خارج الفكر الاقتصادي الرّأسمالي الغربي الذي ثبت للجميع فساده وعجزه ذلك أنّ كلّ العالم يكتوي منذ أكثر من قرن ونصف من الاقتصاد الرأسمالي فهو أصل الاستعمار واستغلال الشعوب وهو الأصل في تفقير الملايين حتّى في كبرى الدّول التي تعتبر قويّة اقتصاديّا (أمريكا بريطانيا، فرنسا…..) وهو المسبب في جوع أكثر من مليار من البشريّة.

   فساد النظريّة الاقتصاديّة الرأسماليّة:

الجماعة عندنا يجعلون زيادة الدخل القومي أساساً للاقتصاد، وهذه الفكرة هي أساس النظام الرأسمالي، الذي يعتبر أن الندرة النسبية للسلع والخدمات بالنسبة للحاجات هي المشكلة الأساسية، أي أن عدم كفاية السلع والخدمات للحاجات المتجددة والمتعددة عند الإنسان هي المشكلة الاقتصادية للمجتمع.

ولما كانت الثروة محدودة فإنها لا تكفي لسد حاجات الإنسان. (ومن ذلك قولهم أنّ الإنتاج في تونس لا يفي بالحاجات وأنّنا مضطرّون للتوريد اضطرارا ممّا أنتج خللا كبيرا في الميزان التّجاري). ومن هنا قالوا بأنّ أساس المشكلة الاقتصادية: هو كثرة الحاجات وقلة وسائل إشباعها. يعني عدم كفاية السلع والخدمات لإشباع جميع حاجات الإنسان إشباعاً كلياً، فصار المجتمع يواجه مشكلة الندرة النسبية للسلع والخدمات. بسبب ما زعموه من قلّة الإنتاج وكثرة الاحتجاجات والاعتصامات، والحقيقة أنّ شباب تونس من قرقنة إلى تطاوين فقابس فقبلي …. يرى ثروته تنهبها الشركات الاستعماريّة ويرى أنّ الدّولة في تونس لا تعدّ حقول الغاز (المملوكة كلّيّا لشركة بريتش غاز) ولا حقول الملح من ثروة التونسيين إنّما هي امتياز للمستعمر.

المشكلة عندهم هي الحاجات وليس الإنسان:

وهذا أوّل الزلل والزّيغ فالاهتمام سيكون منصبّا على الحاجات وليس على الانسان، وسينشغل الاقتصاديّون بالعمليّات الحسابيّة النّظريّة التي تعلّموها في جامعات الاقتصاد الرّأسمالي، (دون أن يلتفتوا إلى الوقائع الحقيقيّة الجارية ودون أن يلتفتوا لما يحصل للأفراد). من أجل توفير الموارد لإشباع الحاجات أمّا إشباع حاجات كل فرد من الأفراد إشباعا حقيقيّا فليس من اهتمامهم ولن تجد له من أثر في أيّ سياسة اقتصاديّة. وعليه صار أكبر همّهم إيجاد القواعد التي تضمن الوصول إلى أرفع مستوى ممكن من الإنتاج حتى توفر السلع والخدمات لمجموعة الناس لا لكل فرد منهم.
ومن هنا كانت مشكلة توزيع السلع والخدمات، عندهم، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمشكلة إنتاجها، وكان الهدف الأسمى للسياسات الاقتصادية هو العمل على زيادة ما يستهلكه مجموع الناس من السلع والخدمات، ولهذا كان الحديث عن حجم الإنتاج القومي يحتل مكان الصدارة بين جميع الموضوعات الاقتصادية، لأن البحث في زيادة نسبة النموّ هو عندهم أهم الأبحاث لمعالجة المشكلة الاقتصادية. فهمّهم زيادة الإنتاج (فهو المشكل) وليس عيش كل فرد من أفراد المجتمع، وصارت تقدر ثروة البلاد جملة بغض النظر عن مالكيها، فتقسم على عدد أفراد الشعب بعمليّة حسابيّة من وراء المكاتب الوثيرة، ويقال معدل دخل الفرد كذا ولو كان الذي يملك هذه الثروة هو عشر هذا الشعب وتسعة أعشاره لا يكاد يجد القوت والكساء ولا يكاد يجد بيتاً يأوي إليه.

هذا هو الأساس للنظام الرأسمالي يبحث في توزيع الموارد على الحاجات الموجودة في البلد لا على حاجات جميع أفراد البلد فرداً فرداً، وهذا التوزيع للموارد على الحاجات يكون فقط عن طريق زيادة الموارد لا عن طريق قواعد تقرر هذا التوزيع.

هذا نظام لا يعتني بالنّاس. فهو لا يبحث في توزيع الثروة عليهم، ولا فيما يضمن أخذهم منها، وإنما يقصر بحثه على الإنتاج، ويترك الناس يأخذون من هذا الإنتاج بقدر ما يستطيعون.

فالاقتصاد الرّأسمالي لا سياسة فيه لضمان الإشباع لكل فرد من أفراد المجموعة، وإنما هو يخطّط فقط لتوفير ما يشبع حاجات المجموعة، أمّا توزيع الدخل فيقولون إنّ حرية التملك، وحرية العمل، هي التي تتكفّل به إذ يترك للأفراد حرية تحصيل ما يستطيعونه من هذه الثروة كل بحسب ما يملك من عوامل إنتاجها، ولا يهتمّون أحصل الإشباع لجميع الأفراد أم حصل لبعضهم دون البعض الآخر.

 وهذا خطأ وظلم:

 لأن الحاجات التي تتطلب الإشباع هي حاجات فردية مع كونها حاجات إنسان. فهي حاجات لمحمد وصالح وحسن، وليست حاجات لمجموعة شعب. والذي يسعى لإشباع حاجاته إنما هو الفرد سواء أكان إشباعه لها مباشرة كالأكل، أو عن طريق إشباع المجموع كالدفاع عن الأمة.

ولذلك فالمشكلة الاقتصادية الحقيقيّة:

 هي ضمان توزيع وسائل الإشباع على الأفراد، أي ضمان توزيع السلع والخدمات على أفراد الشعب وليس على الحاجات التي يتطلبها مجموع الشعب دون النظر إلى كل فرد من أفراده. وبعبارة أخرى المشكلة الاقتصاديّة التي يجب النّظر فيها هي الحرمان الذي يصيب الفرد المعيّن لا الحرمان الذي يصيب مجموع البلاد. والبحث في الاقتصاد إنما يكون لضمان إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد لا فقط البحث في إنتاج المادة الاقتصادية. والفقر والحرمان المطلوب علاجهما هما عدم إشباع الحاجات الأساسية لكلّ إنسان يعيش في البلد بوصفه إنساناً، وعدم تمكينه من إشباع حاجاته الكمالية، وليس الفقر أو الحرمان هو فقر البلاد وهذا الفقر والحرمان بهذا المفهوم. – عدم إشباع الحاجات الأساسية، وعدم التمكين من إشباع الحاجات الكمالية لكل فرد – لا يعالج بزيادة الإنتاج، وإنما يعالج بكيفية توزيع الثروة على جميع الأفراد فرداً فرداً بحيث يشبع كل فرد جميع حاجاته الأساسية إشباعاً كلياً. وتساعده الدّولة على إشباع جميع الحاجات الكمالية.

هكذا تصوّر الرأسماليون المشكلة الأساسية للاقتصاد تصوراً مقلوباً فجعلوها إنتاج الثروة وتركوا أمر توزيعها تركاً تاماً، وتابعهم « خبراء الاقتصاد » في بلدنا، والحال أن المشكلة هي توزيع الثروة.

الآثار المدمّرة للفكر الاقتصادي الرّأسمالي:

ثمّ إن جعل زيادة الدخل القومي هي الأساس، وترك الحرية للناس في الملك والعمل، وعدم العناية بأمر توزيعها على الأفراد، أدى إلى فسح السبل إلى تملك المال بأي وسيلة، وجعلوا التكالب بل الصّراع على تملّك الثروة أساسا في الحياة الاقتصاديّة وضمنوا للأقوياء فقط الكسب والاستزادة، وصار الطّريق واضحا: الأقوياء يضعون القوانين لصالحهم حتّى يضفوا الشرعيّة على الوسائل التي بها يتملّكون. أمّا الضعفاء فيأكلون الفتات إن تيسّر لهم وإن ارتفع صراخهم من الجوع وعدم القدرة على الكسب فيُقال لهم: أنتم كسالى لا تعملون، بادروا إلى الابتكار وخلق المشاريع،    

وعليه فإنّ النظام الرأسمالي لم يعالج المشكلة بل زادها رسوخا وبناها على الظلم وانعدام القيم الرفيعة، بحصر الثروة في أيدي الأقوياء، ومن لا يبالون بالقيم كلها إلا القيمة المادية، ويحرم منها الضعفاء. ويجعل الحياة الاقتصادية أساس الحياة وأساس العلاقات، ويصور الحياة سلعا وخدمات. وبدل أن يعالج الفقر والحرمان للأفراد ركز وجود الفقر والحرمان في المجتمع. لأنه يستحيل أن يخلو المجتمع من ضعفاء، وهؤلاء سيظلون حتماً فقراء ما دام أساس النظام الاقتصادي هو زيادة الدخل القومي، وهذا تركيز للفقر لا محالة. وهو فوق ذلك يجعل السيطرة في البلاد للأغنياء، ويجعل السلطة بأيديهم، ويمكنهم من التحكم في الناس. فظهرت في البلاد سيطرة الاحتكارات الرأسمالية واستبد المنتجون بالمستهلكين، وغدا فريق من الناس كأصحاب الشركات الكبرى كشركات البترول والسيارات والمصانع الثقيلة وغيرها يسيطر على المستهلكين، ويتحكم فيهم، ويفرض عليهم أثماناً معينة للسلع.

الدّعوة إلى التنمية دعوة إلى إدامة الفقر وتمكين للمستعمر:

هذا هو واقع الدعوة إلى جعل زيادة الدخل القومي أساس التنظيم الاقتصادي، وهذا هو بالتالي واقع الدعوة إلى التنمية، فإنها دعوة إلى جعل أساس النظام الرأسمالي أساساً لتنظيمنا الاقتصادي، وهذه هي نتائج هذه الدعوة: ظلم للأكثرية الساحقة من الناس وهم الضعفاء، وتركيز للفقر في المجتمع، ونفي للقيم الرفيعة منه. ومن هنا يظهر مدى ما في هذه الدعوة من خطر على الأمة وعلى المجتمع فوق كونها دعوة مشبوهة غايتها تثبيت النظام الرأسمالي بعد أن اشرف على الانهيار، وتثبيت أقدام الدول الكافرة المستعمرة في بلادنا بعد أن أذن نفوذها وسلطانها فيها بالانهيار والزوال، وبعد أن صارت هذه البلاد على وشك التحرير.

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )