الانتخابات مرّة أخرى؟ ألا يكفي ما ضاع من السنوات عبثا ديمقراطيّا آن له أن ينقلع؟

في هذه الأيّام تعيش تونس « حملات انتخابات المجلس التّشريعي وفق دستور سعيّد. ويُجمع المراقبون أنّ الحملة باردة بل جامدة، وهي أقرب إلى الصّمت الانتخابي قبل الأوان، ويرجع الأمر بحسب محلّلين إلى مقاطعة الأحزاب السّياسيّة للعمليّة الانتخابيّة، وأنّ المشاركين في الانتخابات دون المستوى السّياسيّ.

هل تحوّلت الأحزاب السياسيّة ضدّ الانتخابات؟

نعم تحوّلت كلّ الأحزاب السّياسيّة ضدّ الانتخابات بدعوى أنّها غير ديمقراطيّة، وأنّها تتمّ تحت سلطة الحاكم الفرد المنقلب. لكنّ الأحزاب لم تكتف بالمقاطعة، بل ظلّت أسابيع وأشهرا تتوجّه إلى القوى الغربيّة تبرّر مقاطعتها للانتخابات وتشكو توقّف المسار الدّيمقراطي، وكان توجّههم هذا من أجل أن تتدخّل أوروبا أو أمريكا كي توقف هذا المسار، لكنّ أوروبا وأمريكا أظهرت الدّعم لقيس سعيّد، في أكثر من مناسبة. فتوجّه بعض نوّاب المجلس النّيابي السّابق إلى المحكمة الإفريقيّة لحقوق الإنسان من أجل رفع دعوى ضدّ الانتخابات في تونس من أجل إبطالها أو تأجيلها…

وأعلنت الأحزاب أنّها ستنطلق في مسيرتين يوم السّبت 10 ديسمبر، احتجاجا على قيس سعيّد ومساره الانتخابي ومن أجل حكومة سمّوها حكومة « إنقاذ وطنيّ ». ولا يخفى على المتابع أنّ اختيار يوم 10 ديسمبر إنّما كان استحضارا لذكرى الإعلان الأمميّ لحقوق الإنسان الذي أعلن يوم 10 ديسمبر 1945.

وفي المقابل فإنّ الرّئيس سعيّد ماض في انتخابات يصفها بالدّيمقراطيّة، ويزعم هو ومن معه أنّه مسار تصحيحيّ يصحّح ثورة التّونسيين في التّخلّص من الفاسدين والعابثين بقوت الشّعب، يقول هذا في الوقت الذي يُعاني فيه الشّعب أو يكاد من الجوع، يقول هذا والبلاد تغرق وحكومته لا حلّ لها إلّا الفتات الذي تمنّ به بنوك أوروبا وصندوق النّقد الدّولي. ومع كلّ هذا يمضي الرئيس في مساره الانتخابيّ وهو يتفاخر أنّ الغرب أمريكا وأوروبا تدعم مساره.

فهل نحن أمام خصمين حقيقيين يتخاصمان من أجل التّونسيين؟ فهل نحن أمام برنامجين مختلفين؟

الحاصل أنّ الرّئيس في مساره الانتخابي والأحزاب السّياسيّة في رفضها للانتخابات، لا يختلفان، ولا يتناقضان بل تكشف خطاباتُهم جميعا:

1- الإصرار على التبعيّة للغرب فكرا وممارسة؛ فالرّئيس وخصومه كلّهم يتّخذ من الغرب وجهة وقبلة، وكلّهم يبيّن « شرعيّته » أو يبنيها على أساس الدّعم الغربي. فالرئيس في مقابلاته الدّوليّة ومنذ 25 جويلية يبرّر ويؤكّد للسفراء والمبعوثين الأجانب أنّه ودستوره ومراسيمه في خدمة الدّيمقراطيّة. أمّا المعارضة فلا تنفكّ تشتكي من تسلّط قيس وتطلب من الغرب أن يعمل على إعادة المسار الدّيمقراطيّ.

2- هذا التّناقض بين الرئيس وخصومه، هو من أجل تكريس نظام علمانيّ غربيّ، يستند إلى الغرب ويحفظ مصالحه، فالأحزاب السياسيّة كلّها كانت في الحكم وكانت في البرلمان، وساقت البلد بسياسات تبعيّة وضعتها القوى المستعمرة، ثمّ عجزت وتعثّرت في تنفيذ ما طُلِب منها، فجاء قيس سعيّد ليُكمل مسار الارتهان للأجانب، فواصل سياسة الارتهان، وواصل سياسة التّغريب التي بدأها بورقيبة، فكانت قمّة الفرنكفونيّة تأكيدا لتبعيّة تونس الثقافيّة.

ومن عجائب الأمور أنّ الأحزاب السياسيّة وهي تُقاطع الانتخابات، تدعو إلى الانتخابات. يطلبون العودة إلى الشّعب مرّة أخرى. لماذا؟ أليست هذه انتخابات يتمّ فيه العودة إلى الشّعب؟ ألم تكن انتخابات 2011 و2014 و2019 واستفتاء 2022 كلّها عودة إلى الشّعب؟ فماذا حصل؟ هل حُلّت المشاكل؟ ماذا لو أفرزت الانتخابات التي تُريدها الأحزاب الوضع الحالي؟ أو الوضع السّابق؟ ما الفرق؟ ماذا تغيّر؟ هل تغيّرت الأحزاب؟ هل تغيّرت تبعيّتها للغرب؟ هل عندها من برنامج غير ما تُمليه الدّوائر المستعمرة؟

إنّ هذا الوسط السّياسيّ (رئيسا ومعارضة) هو المشكل، وديمقراطيّتهم هي التي ضاعفت أزمات في تونس، وخضوعهم للرّأسماليّة العالميّة المجرمة هو الجريمة التي لا تُغتفر، فكلّهم رهن تونس بالقروض المهلكة وكلّهم لا برنامج له إلّا ما يُملى عليهم من سياسات ظالمة مظلمة.

أمّا الشّعب التّونسيّ …

فقد أحسّ اليوم بحقيقة هذا الوسط السّياسيّ رئيسا ومعارضة، فأعرضوا عنهم إعراضا، فبرودة الحملة الانتخابيّة الحاليّة لا تعود إلى مقاطعة الأحزاب السّياسيّة إنّما هي وعي حقيقيّ دبّ في أهل تونس الذين علموا دجل هذا الوسط السّياسي، ليس الآن فقط بل كان منذ 2014 حيث كان العزوف عن المشاركة في الانتخابات ظاهرة، ثمّ ازداد عزوف النّاس كلّما ازدادت انتخاباتُهم. حتّى صار الأمر وكأنّ الانتخابات وحديثها والنّقاش حولها تدور في بلد آخر غير تونس. ولا حديث في تونس اليوم إلّا عن الأزمة التي فضحت الوسط السّياسيّ برمّته، ووعى التّونسيّون على حقيقة الأوضاع

يريد السّياسيّون العودة إلى الشّعب، وهم يقصدون انتخابات جديدة، لكنّ الشّعب رفض ديمقراطيّتهم وانتخاباتهم ووجوههم وأقوالهم المكرّرة المملولة. وما عاد موقف الشّعب من الوسط السّياسيّ الحالي خافيا، الشّعب اليوم كلّ الشّعب يريد أن يتحرّر وتتحرّر بلاده من هذه الحياة السّياسيّة الهابطة المنحطّة، يريد نظاما جديدا.

المهلة انتهت؟

المهلة انتهت، أخذت العلمانيّة أكثر من قرن من الزّمان في تونس فلم تُنتج إلّا البؤس والشّقاء لأهل تونس الذين اكتفوا بما ضاع من سنوات عابثة أفسدت فيها الديمقراطيّة الحياة، حتّى ما عاد أحد يرجو منها خيرا.

ولذلك نقول أنّ الثّورة لن تتوقّف الثّورة بل ستتواصل وعشر سنوات في تونس من الاحتجاج والرفض دليل على طول النّفس، والحقيقة أنّ الشعوب المسلمة كلّها (ومنها شعب تونس) ومنذ أن سقطت الخلافة ووقعت تحت سيطرة القوى المستعمرة وهي في حالة من المقاومة لم تتوقّف إلا قليلا، بما يعني أنّ ثورة الأمّة عمرها الحقيقي طويل لم يبدأ في 2011 بل بدأ في القرن ال19م، في كلّ بلاد المسلمين التي احتُلّت، وفي تونس بدأت الثّورة منذ أن استقلّ البايات الحسينيين عن دولة الخلافة في ثلاثينات القرن التاسع عشر، ويمّموا وجوههم تلقاء أوروبا تخدعهم بأحاديث الإصلاح وتمنّيهم وتستدرجهم حتّى استعمرتهم، نعم منذ أن ظهر ظلم البايات وتبعيّتهم لأوروبا والشعب المسلم في تونس ينتفض ويقاوم ولا يهدأ.

الأمّة الآن في عنفوانها وقد بان لها العدوّ الحقيقي المستعمر وحفنة العملاء العلمانيين الذين انخدع بهم النّاس لفترات ولكنّ حبل الخداع انقطع وانكشفت الجرائم والخيانات والخذلان. ولن تتوقّف الثّورة بل ستتواصل يحدوها وعي جديد وبحث عن قيادات جديدة، لا تعرف الخضوع للمستعمر، قيادات جديدة تحمل حلولا حقيقيّة مبنيّة على رؤية واضحة وقويّة منبثقة عن الإسلام العظيم دين ربّ العالمين.

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )