البؤســـاء

سنة 1869، فرضت كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، تشكيل لجنة مالية دولية بتونس، سميّت بالكوميسيون المالي، وذلك على خلفية الأزمة المالية التي استحال معها تسديد ديون تونس الخارجية، وكان شعار هذه اللجنة آنذاك هو الإصلاح المالي والاقتصادي الذي يفتح الباب على مصراعيه لا للتداين فحسب، بل لتدويل الأزمة وإطلاع الأعداء على حقيقة وضعنا الداخلي بأدق تفاصيله.

بعد عقد ونيف من إخضاع مالية تونس للرقابة الدولية، استفاق أهل تونس على دبابات المستعمر الفرنسي سنة 1881، وهي تدك حصون البلد وتقتل أهله بل تعدم المرابطين منهم وتدفنهم في مقابر جماعية،حتى عاش الأولاد والأحفاد أسوأ وأبشع فترة ضد آلة البطش التي تميّز بها الاستعمار الفرنسي قرابة قرن من الزمان. في المقابل، اعتبر الخونة والمتعاونون مع عدوهم هذا التدخل السافر « حماية » تستوجب تقبيل أكتاف المستعمر الذي حماهم مما اعتبروه تدخلا عثمانيا في شؤونهم الداخلية..

اليوم، نجد أنفسنا على موعد جديد، مع استعمار من نوع جديد، تتضافر فيه جهود الأطراف الدولية، لإخضاع تونس إلى معادلة سياسية واقتصادية مشروطة، يمكن من خلالها المرور إلى وضعية جديدة، يروّج أصحابها لفرية فشل الإسلام السياسي لإخماد جذوة الثورة وقتل الرغبة في التغيير، ثم يستميتون في فصل الدين عن الحياة والمجتمع والدولة، ليُختزل في طقوس وشعائر تعبّدية، لا دخل لها في نمط المجتمع وأنظمة العيش، وكأننا أمة بلا دين ولا تاريخ ولا حضارة ولا تشريع..

فالمستعمر الفرنسي على وجه التحديد، لم يدّخر جهدا في انتداب من يتعاون معه ويفتح له أبواب القصر والحكومة، تحت نفس عنوان « الحماية » محاولا عبر كل الوسائل والأساليب تيئيس الناس من فكرة التغيير على أساس الإسلام، وغلق قوس الثورة بشكل نهائي.

فساكن قرطاج، أقسم يوم توليه ذلك المنصب وتلك الأمانة، بأن خزائن الدولة ستفيض بالأموال..ولكن بعد عام ونصف من الحكم ومضاعفة ميزانية رئاسة الدولة، صار ينعت خصومه بأنهم من تسبب بإفراغ خزائن الدولة، وكأنّ دوره يقتصر فقط على حصر الأزمة في أشخاص الحكام السابقين، وهو الأسلوب الذي ظل يعتمده الاستعمار عبر وكلائه منذ عهد الأمان سنة 1861 إلى يوم الناس هذا.

صبيحة الثلاثاء 24 جانفي 2023، استقبلت رئيسة الحكومة، نجلاء بودن رمضان، بقصر الحكومة بالقصبة، إيمانويل مولان المدير العام للخزينة الفرنسية، رفقة المقيم العام الفرنسي أندري باران، وذلك ضمن الزيارة الثانية من نوعها لهذه الشخصية الاقتصادية في أقل من عام. وحسب المعلن، فإن زيارة « إيمانويل مولان » الذي يرأس بدوره نادي باريس، تندرج في إطار التزام فرنسا بدعم جهود تونس للمضي قدما في مسارها الإصلاحي الضروري لاستعادة عافيتها الاقتصادية ونسق نموها ورفاهها الاجتماعي، وهي نفس الشعارات التي دارت بها عجلة الكوميسيون المالي منذ القرن التاسع عشر، لتكون مقدمة لحقبة استعمارية مرعبة، لن تحذف من ذاكرة أهل تونس، حتى في صورة تقديم فرنسا لاعتذار شكلي، فما بالنا وهي تفتخر بجرائمها إلى اليوم؟

الأكثر من ذلك، فإن مدير الخزينة الفرنسية ورئيس نادي باريس الملقب برجل الأزمات، جاء ليعلن لتونس استعداده بشكل رسمي للوساطة مع صندوق النقد الدولي، وذلك في صورة مخزية مخجلة لرئيسة الحكومة، وهي تجلس جلوس البؤساء ممّن يثيرون الشفقة أثناء طرق أبواب الاقتراض.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف ستفيض خزائن الدولة وكيف سيتعافى الاقتصاد وحكام هذا الزمان مصرون على نفس نهج التداين والتسول على أعتاب الجهات الدولية المانحة، بل المتربصة؟ ألم يعد واضحا أن إغراق البلد في الديون هي سياسة استعمارية خبيثة لها ما بعدها؟ أم أن الأهم عند الرئيس وحكومة الرئيس هو التمادي في بيع الأوهام للناس لنستفيق على وضع أشد رعبا مما عاشه أجدادنا؟ ألا يتعظ هؤلاء البؤساء من التاريخ؟

خلاصة القول، أن طريق البؤساء واضح، ولا يحتاج شرحا ولا تفسيرا ولا حملة انتخابية ولا إعداد برامج ورؤى اقتصادية، ولا إلى سند شعبي، يحتاج فقط تعويلا على الكافر المستعمر وتقبيلا لأكتافه، ثم سيتكفل الاستعمار بوضع شروط المساعدة المزعومة وفرض خياراته الرأسمالية المشؤومة، لأن طريق التسول هو أيسر طريق، ولكنه لا يبني للمسلمين دولة، بل أثبت التاريخ أنه سبب لمزيد تقسيمهم وتشتيتهم واستعمارهم ونهب خيراتهم، ولذلك فإن على أصحاب العقول الراجحة في بلد الزيتونة أن يبادروا باقتلاع هذا النظام الذي زرعه ورعاه الاستعمار، ولم يترك لنا إلا ثماره المتعفنة في كل أجهزة الدولة الوطنية المتآكلة، والتي نخرها دود الفساد الرأسمالي إلى حد النخاع، فلم يعد يلتف حول هذا النظام الفاسد إلا الفطريات البائسة التي تعيش على الثمار المتعفنة، وتنسى أن الملك الجبري إلى زوال وأن ما ينفع الناس هو الذي يمكث في الأرض.

قال تعالى: « كَذَلكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ».

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )