التضليل الممنهج في تونس

التضليل الممنهج في تونس

لقد أدى تمرد أهل الخضراء على الأوضاع التي فرضها الإستعمار منذ أن أحكم قبضته على بلادنا، إلى تصدع أركان الملك الجبري وسقوط أسواره وانكشاف عملائه وحراسه، وهو ما شكل فرصة ثمينة للتحرر الشامل، خاصة بعد الأعمال الفكرية والسياسية الضخمة التي خاضها المخلصون من أبنائنا ضد المنظومة الغربية على مدار سنين طويلة، حتى أضحى التغيير مطلبا شعبيا يقره العقل والنقل.

وفي المقابل يحرص الغرب وأدواته المحلية على اعتماد التضليل حتى لا تسلك الأمة الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى التغيير الحقيقي المبني على عقيدتها الإسلامية، ومن أخطر الوسائل والأساليب التي استخدمها الغرب وعملاؤه للتمديد في عمر منظومته الحضارية والتشريعية هو أسلوب التضليل، أي تغييبُ الحقيقة وطمسُها حتى ينشغل الناس عنها بأمور مزيّفةٍ كاذبة، يتم إظهارها على أنها هي الحقيقة، فلا توجه نحوه السهام والأعمال والجهود؛ فيبقى متربعا على عرشه ينظر إلى حركة الأمة، وهي تدور في دوامة لا تخرج منها، حيث يُظهِر لها طريقا يختلف عن الطريق الصحيح، وكلما أدركت أن هذا الطريق مظلم أدخلها في نفق مظلم آخر، لا يقل خطورة عن الأول باغيا من خلال التضليل أن يحافظ على منظومته، وأن تصاب الأمة باليأس والقنوط.

تغيير أشخاص الحكم وليس النظام

فقد أوهم الغرب الثائرين المطالبين بالتغيير بأن المشاركة في الانتخابات هو السبيل الوحيد لذلك، فانخرطت الأمة في عملية انتخابية تلو الأخرى دون أن يحدث التغيير المنشود حتى وصلت الأمة إلى قناعة من أن الانتخابات لم تكن سوى مسرحية أخرجها الغرب ضمن إطار حضارته حتى لا تخرج الأمور عن سيطرته، فرئيس الحكومة إلياس الفخفاخ تربع على كرسي القصبة بالرغم من حصوله على صفر مضاعف في الانتخابات الأخيرة وقد كشف عن سر ذلك يوم تنصيبه عندما قال بأنه تعرض إلى مساءلة (entretien d’embauche) من طرف سفيرة بريطانيا قبل تكليفه من رئاسة الجمهورية.

صراع الصلاحيات الوهمية

وعندما فقد الناس الثقة في الإنتخابات بدأ الرئيس قيس سعيد يتحدث عن سحب الوكالة ممن خان الأمانة ويقصد بذلك النواب, وأصبح يفرق بين الشرعية البرلمانية والمشروعية الشعبية، ليشغل الناس بصراعات بين أشخاص الحكم أو بالأحرى بين الرئاسات الثلاث حول الصلاحيات، وكأن البلاد مستقلة القرار، في الوقت الذي لا يجرؤ أي منهم على لجم السفراء الأجانب الذين انتهكوا سيادة البلاد، فهو بدل أن يوجه سهام الناس نحو الدوائر الإستعمارية ومنظومتها العلمانية البائسة التي جلبت الشقاء للناس ويدفعم للالتفاف حول المشروع الحضاري الإسلامي باعتباره الحل الوحيد لما تعانيه الأمة من فقر وفساد ونهب واستضعاف وفرقة…، بدل ذلك يشغلهم بصراع لن يغير من الوضع السياسي الراهن سوى في الوسائل والأساليب أما المنظومة فستبقى كما هي، فضلا عن السيطرة الغربية.

محاربة الفساد

كما سعت الأوساط السياسية المرتهنة للدوائر الإستعمارية إلى تضليل الناس وإيهامهم بالتغيير، من خلال إشغالهم عن فساد النظام بفساد القائمين عليه، وذلك بمحاربة الفساد المالي بمختلف مستوياته، ابتداءً من سرقة الأموال العامة على أيدي كبار المسئولين في الدولة ورؤوس المال الفاسدين، مروراً بالرشاوى، وانتهاءً  بالمحسوبية وتفشي البيروقراطية في أجهزة الدولة.

ورغم أن الفساد ازداد تفشيا في ظل حكومات ما بعد الثورة من خلال تشابك مصالح لوبيات المال والإعلام وسماسرة الحكم وبعض الأحزاب والسياسيين، ما زالت المنابر الإعلامية تحاول التعمية عن الحقيقة: وهي أن موطن الداء وسبب البلاء يكمن في النفوذ الأجنبي ومنظومته الحضارية الرأسمالية التي يتحكم من خلالها في البلاد، فيصنع العملاء والفاسدين ويرعاهم ويسخر لهم الإعلام الفاسد ويحميهم بقوانين ومراسيم, ويفرضهم على الناس بقوة الجند وبضغط مؤسساته المالية، منظومة متكاملة من الفساد والإفساد والنهب، يتحكم الغرب والسفراء الأجانب بخيوطها وأدواتها، وكلما نجح الناس في إزاحة عميل استبدله الغرب بمن هو أسوأ منه، ومن الخطأ الانشغال بذنب الأفعى وترك الرأس ينفث سمه في جسد الأمة.

الإيهام بالتغيير

ومن التضليل ما يحاول رئيس الحكومة إيهام الناس بأن التغيير قادم، حيث أكد في حوار خاص لقناة « فرانس 24 » يوم الثلاثاء 12 ماي 2020، من أن حكومته « جاءت من أجل تغيير النهج الخاطئ الذي تسلكه البلاد » وأن هدفها « القضاء على الفقر وإنقاذ الإقتصاد وتغييره »، ولكنه يستمر في سياسة الإقتراض التي أغرقت البلاد في بحر لجي من الديون المتراكمة ورهنت اقتصاد البلاد بيد المؤسسات المالية والاتحاد الأوروبي، فيبدأ حكمه بقرض بقيمة 745 مليون دولار من صندوق النقد الدولي الذي كان هو من فتح لهم أبواب الإقتصاد التونسي عبر رسالة النوايا الأولى التي أرسلها للصندوق عندما كان وزيرا للمالية أيام حكم الترويكا. فهذه الحكومة لا تجرؤ على قول الحقيقة للناس بأن الأزمة في النظام الرأسمالي نفسه، وإن الواجب اجتثاثه من قواعده وأسسه، والبحث عن حل صحيح على أنقاضه، لأن ترقيعه لا يجدي نفعاً، حيث اتسع الخرق على الراقع، ولكنها استمرت في التضليل مع تبشيرهم بالأسوأ.

غلق المساجد بدعوى حفظ النفس

ومن التضليل الذي استخدمته الحكومة: الايهام بأن غلق المساجد كان بناء على أن حفظ النفس مقدم على حفظ الدين، وأن رئيس الحكومة غلق المساجد خوفا على أهل تونس من انتقال العدوى وفتك الفيروس، إلا أن الإسراع في غلق المساجد ومنع صلاة الجمعة والجماعة والحزم في ذلك في الوقت الذي لم تنقطع التجمعات أمام البريد والبنوك والمعتمديات والأسواق ومراكز بيع الخمور، كل ذلك يؤكد بشكل لا لبس فيه أن الحرص على غلق المساجد لم يكن خوفا من عدوى الوباء. كما أن إجراءات الحجر الصحي الموجه والسماح التدريجي للنشاط والتجمع شملت إلى حد الآن معظم القطاعات بما فيها المساحات التجارية الكبرى ولكن استبعدت من هذه الإجراءات المساجد، وهو ما يؤكد التضليل الممنهج الذي تتبعه الحكومة.

خاتمة

إن الناظر المدقق في هذه الوسائل والأساليب الخبيثة يرى أنها أوهى من بيت العنكبوت، ولا يمكن أن تنطلي على المؤمنين الواعين، وإن مواجهة عمليات التضليل يكون بإيجاد الوعي عند جماهير المسلمين في تونس للتصدّي والوقوف في وجه ضلالات وألاعيب الاستعمار وأدواته المحلية، والله سبحانه وتعالى يؤيد بقوته وتدبيره المسلمين المخلصين ضد هذه الأساليب والوسائل الخبيثة، وتكفّل بكشف الباطل وإزهاقه مهما علا وارتفع.

قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون) الأنبياء/18

د. الأسعد العجيلي، رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير، ولاية تونس

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )