الثابت والمتغير في تونس قبل الثورة وبعدها

الثابت والمتغير في تونس قبل الثورة وبعدها

حين غادرت جيوش المستعمر بلادنا وجيء بـ »بورقيبة » كانت لدى الناس حينها قناعة بأن الدولة التي وكل الاستعمار « بورقيبة » بإنشائها سيتغير معها حال البلاد والعباد وأن زمن الذل والهوان ولّى دون رجعة وغادر التفقير والتجهيل والتهميش أرضنا بمجرد الانتهاء من تحبير وثيقة الاستقلال المزعوم، وهذا ما عمل « بورقيبة » على التسويق له هو وكل من يدور في فلكه وفلك « دولة الاستقلال » من نخب وإعلام وباقي المطبلين، فبورقيبة كان يجوب البلاد بالطول والعرض يلقي الخطاب تلو الخطاب يوضح للناس ويبين لهم مناقب حكمه وعظيم إنجازاته وكان دوما يذكرهم بأنهم كانوا زمن الاستعمار المباشر مستعبدين لا يملكون أمرهم يرتكب المستعمر في حقهم أبشع الجرائم, لا لشيء إلا لكونهم رفضوا احتلالهم لأرضهم واغتصاب ثرواتهم وخيراتهم وانه هو خلصهم من ربقة ذلك الاستعباد, وأن بفضله أصبحوا ينعمون بخيرات بلادهم وبفضله عرف نور العلم طريقه إلى عقولهم ولولاه لما أصبحوا يحيون حياة البشر. الغالبية كانت مقتنعة بما يسوق له « بورقيبة » لأنهم رأوا تغييرا ظاهرا بين فترة الاستعمار المباشر وفترة ما يسمى بالاستقلال.

 ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما فالاستعمار رسم سياسة فيها المتغير والثابت. فمن حيث خضوع بلاد المسلمين للاستعمار الأجنبي المباشر لم يعد يحقق النتائج المرجوة ومن الصالح للقوى الاستعمارية استبداله باستعمار ناعم على يد حكام من أبناء البلد الذين تمّت صناعتهم في مدارس أوروبا، لترسيخ وتكريس الاستعمار الشامل الاقتصادي والسياسي والثقافي. وإن حصل ورفض الناس سياسة أي من الحكام المنصبين من طرف تلك القوى يتكفل الحكام بقمعهم والتنكيل بهم تحت مسمى المصلحة الوطنية ونحو ذلك من الشعارات التي يحتمي بها طغاة العالم الإسلامي. ولتبرير سياسة القمع والبطش خاصة وأن في الأمة سمّاعون لهم ومقتنعين بأن عصاهم الغليظة تلك من أجل مصلحة البلاد والعباد, ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون من أجل خدمة المستعمر وتنفيذا لأجنداته.

ومن أهم الأسباب التي جعلت القوى الاستعمارية تغزو جيوشها بلادنا هو الحيلولة دون عودة المسلمين متوحدين تحت راية دولة واحدة يحكمهم نظام واحد مصدره واحد وهو وحي رب العالمين وهذا ما تعهد به « بورقيبة » وأمثاله فقد كان أحرص الحكام على محاربة الإسلام وإقصاء أحكامه من حياة الناس وكل من يقف في وجهه يتوعّده بالويل والثبور ويكون مثواه المعتقلات والسجون يلقى فيها شتى أنواع العذاب وهذا ما كان ينتهجه الاستعمار زمن الاحتلال المباشر فكل من يناهضه يُعذب و ُشرد ويُنكل به أي تنكيل، فسياسة البطش ثابت في النظام الوضعي سواء كان المجرم مستعمرا أجنبيّا أم حاكما من بني جلدتنا كبورقيبة.

أما من حيث رعاية الشؤون فالثابت الذي لم يتغير هو اتباع سياسة « فرّق تَسُدْ » الذي كان ينتهجها المستعمر وجاء « بورقيبة » ولم يغير فيها إلا الشكل، فعمل على إثارة جهات ضدّ أخرى وميّز مدنا على مدن حسب ما تبديه من ولاء، فزرع بذور الكراهية بين الجهات، وهذا بالضبط ما كان (ولا يزال) ينتهجه المستعمر بشكل مباشر أو عن طريق أذنابه من حكام الضرار. 

استمر « بورقيبة » في سياسته تلك ثلاثة عقود إلى أن بدأ التململ يدب في عموم الناس وبات المستعمر يخشى على وجوده, ولتفادي المحظور قام بحركة استباقية وأخرج من أحد حظائره المنقذ الجديد كما أخرج من قبله بورقيبة في صورة البطل المنقذ هذا المنقذ الجديد هو « بن علي » الذي دفعه « حرصه » على مصلحة البلاد وأهلها إلى الانقلاب على الزعيم الأوحد والزعيم المفدى « بورقيبة » الذي تحول في لمح البصر إلى خطر يهدد البلاد ولا مفر من إزاحته من سدة الحكم، السائس الذي أطلق العنان  لبورقيبة هو ذاته الذي أذن لبن على لينطلق نحو سدة الحكم وهو ذاته الذي سهر على رعايتهما وتدريبهما لما كانا داخل الحظيرة. 

ولتكون مسرحية مكتملة الأركان لُقب بن علي « بصانع التغيير » ومعه ساد الاعتقاد بأنه سيكون هناك تغيير بالفعل، وظن الكثيرون أن زمن الاستبداد والتهميش رحل مع بورقيبة كما ظن غيرهم من قبل أن الظلم والقهر بجميع أصنافه رحلا مع رحيل آخر جندي فرنسي عن ديارنا, وأن الدولة التي أسسها بورقيبة ستجعل البلاد نعيما مقيما، وبما أن « بن علي » جعل التغيير عنوانا لعهده كان لزاما عليه أن يحدث تغيرا يراه الناس، لهذا ألغى تولي الرئاسة مدى الحياة، وكأن المثلبة الوحيدة لزمن « بورقيبة » الرئاسة مدى الحياة. استبشر الناس بهذا التغيير الشّكلي وأملوا في « بن علي » الخير خاصة وأنه سمح بأن تكون هناك أحزاب معارضة.

 وكما كانت مقارنة بين فترة الاستعمار المباشر وبين فترة بورقيبة تمت أيضا المقارنة بين فترة بورقيبة وبين ما قام به بن علي، رأى الواهمون تغييرا تغييرا ظاهريّا:  فالرئاسة مدى الحياة أصبحت من الماضي وبات من الممكن وجود معارضة وابتلع الجميع الطعم -إلا قلة واعية-.

 ما غيره « بن علي » لم يغيره من تلقاء نفسه بل سمح له به السائس قبل أن يغادر الحظيرة، بل أعطاه كما أعطى لمن حكم قبله ولمن جاء من بعده حرية التصرف على أن لا يتجاوز الحد المرسوم له ويحافظ على الثوابت المحددة سلفا وهي العمل وبجد على منع فكرة الحكم بما أنزل الله وبذل الوسع في التنكيل بكل من يسير في هذا الطريق والتضييق عليه. وكما فعل « بورقيبة »: المواصلة في التفويت في ثروات البلاد للقوى الاستعمارية ومنعها عن أهل البلاد وبالفعل هذا ما سار عليه بن علي إلى أن طفح الكيل وثار الناس عليه وعلى سياسته. وتكرر المشهد مجددا، استشعر المستعمر الخطر وكما هو دأبه فتح باب الحظيرة لأعوانه وأمرهم بالخروج والركض نحو مكامن السلطة لينقذوه وينقذوا نظامه الذي ارتضاه لهم من الاندثار, ومرة أخرى كان هناك تغييرا شكليّا انساق له الواهمون وقالوا أن الأمر قد حسم ولن تعيش البلاد ما عاشته مع « بورقيبة » و »بن علي », كيف لا ومن جيء بهم بعد الثورة أتو بإرادة الشعب التي كانت الغائب الأكبر.

 إنها عصا الاستعمار السحرية, إنها الانتخابات. نعم الانتخابات.. فلأول مرة ينتخب الناس حكّامهم, والانتخابات هي وحدة كفيلة بأن يتغير حال البلاد فهي قادرة على القضاء على الفقر والتخلف وكل ماهو سيء وقبيح زمن « بورقيبة » و »بن علي » ومرة أخرى ابتلع الجميع الطعم -الا قلة واعية- ولم يتغير المضمون وظل ثابتا لأنه وكما أسلفنا يمثل القلب النابض للمستعمر وسر حياته وبقائه جاثما على صدورنا كاتما لأنفاسنا وهو البقاء تحت نير نظامه الوضعي والحيلولة دون عودة الإسلام للحكم وتسيير أحكامه لشؤون أهله.

جاءت حكومة تلو الأخرى وكل من تسللوا من ثقوب صناديق الاقتراع إلى مراكز السلطة فشلوا في تغيير أحوال البلاد والعباد بل ازدادت الأحول تدهورا على ما كانت عليه من قبل وازداد نفوذ المستعمر الذي بعد عشر سنوات عجاف استشعر كالعادة الخطر واتجه مسرعا إلى الحظيرة وأخرج منقذا جديدا من نفس فصيلة من تعاقبوا على الحكم بعد الثورة. انتخبه الشعب وفاز في الانتخابات الرئاسية بنسبة غير مسبوقة. ولم يمض على وصوله إلى قصر قرطاج أكثر من سنتين حتى رفع لواء التغيير فكانت الفرحة العارمة. فقيس سعيد أعلنها حربا (خطابيّة) لا هوادة فيها على الفاسدين والمارقين والمتآمرين وكل من أراد سواء بتونس وأهلها, ومن أجل تحقيق هذا الحلم أعلن جملة من الإجراءات الاستثنائية ووضع جميع الملفات في قبضته وبقى الواهمون ينتظرون الحصاد -إلا قلة واعية- إجراء وراء إجراء ولم تمطر عليهم السماء كما وعدهم الرئيس الحالي, بل تمدد القحط أكثر فأكثر وضرب الجدب معظم القطاعات حتّى أوشكت الدولة أن تعلن إفلاسها.

 نعم لقد غير « قيس سعيد » وألغى ما كان يتفاخر به خدم الاستعمار من مؤسسات وقوانين وأصبح كل من كان يحصد شهادات الثناء والإطراء خطرا داهما يتربص بالبلاد. وبقى المضمون هو هو ثابتا لا يتغيّر:  تكريس النظام الوضعي وما ينبثق عنه من أفكار ومفاهيم وترسيخه، واستمر تمكين المستعمر من خيراتنا وثرواتنا، وهذا هو الثابت الذي لم يتغير منذ الاحتلال المباشر لبلادنا وفي عهدي بورقيبة وبن علي وإلى يومنا هذا رغم الثورة نعم هذا هو الثابت إلى أن تسترد الثورة أنفاسها وتتجدد وتستهدف رياحها جذور النظام وتقتلعها وتحمل معها الاستعمار وأعوانه.

 ولن يتحقّق للثورة أهدافها حتّى  تكون تغييرا في العقليّة عقليّة الحكم والتّشريع، عقليّة تحرّرنا من عبوديّة البشر، وتشريعا ربّانيّا عادلا ربّانيّا يرفعنا  إلى مصافّ البشر بأن نكون فقط عبادا لله ربّ العالمين.

أ, حسن نوير

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )