الخلافة التي نريد

الخلافة هي رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، وهي عينها الإمامة، فالإمامة والخلافة بمعنى واحد. وقد وردت الأحاديث الصحيحة بهاتين الكلمتين بمعنى واحد، ولم يرد لأي منهما معنى يخالف معنى الأخرى في أي نص شرعي، أي لا في الكتاب ولا في السنّة لأنهما وحدهما النصوص الشرعية. ولا يجب أن يلتزم هذا اللفظ أي الإمامة أو الخلافة، وإنما يلتزم مدلوله.

وإقامة خليفة فرض على المسلمين كافة في جميع أقطار العالم. والقيام به ـ كالقيام بأي فرض من الفروض التي فرضها الله على المسلمين ـ هو أمر محتم لا تخيير فيه ولا هوادة في شأنه، والتقصير في القيام به معصية من أكبر المعاصي يعذب الله عليها أشد العذاب.

والدليل على وجوب إقامة الخليفة على المسلمين كافة: الكتاب والسنة وإجماع الصحابة.

أما الكتاب، فإن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المسلمين بما أنزل الله، وكان أمره له بشكل جازم، قال تعالى مخاطباً الرسول عليه السلام: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) وقال: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك). وخطاب الرسول خطاب لأمته ما لم يرد دليل يخصصه به، وهنا لم يرد دليل فيكون خطاباً للمسلمين بإقامة الحكم. ولا يعني إقامة الخليفة إلاّ إقامة الحكم والسلطان. على أن الله تعالى فرض على المسلمين طاعة أولي الأمر، أي الحاكم، مما يدل على وجوب وجود ولي الأمر على المسلمين. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، ولا يأمر الله بطاعة من لا وجود له. فدل على أن إيجاد ولي الأمر واجب. فالله تعالى حين أمر بطاعة ولي الأمر فإنّه يكون قد أمر بإيجاده. فإن وجود ولي الأمر يترتب عليه إقامة الحكم الشرعي، وترك إيجاده يترتب عليه تضييع الحكم الشرعي، فيكون إيجاده واجباً لما يترتب على عدم إيجاده من حُرمة، وهي تضييع الحكم الشرعي.

وأما السنّة فقد روى مسلم عن طريق نافع قال: قال لي ابن عمر سمعت رسول الله عليه السلام يقول : «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» . فالنبي عليه السلام فرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة، ووصف من يموت وليس في عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية. والبيعة لا تكون إلا للخليفة ليس غير. وقد أوجب الرسول على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة لخليفة، ولم يوجب أن يبايع كل مسلم الخليفة. فالواجب هو وجود بيعة في عنق كل مسلم، أي وجود خليفة يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده. فوجود الخليفة هو الذي يوجد في عنق كل مسلم بيعة سواء بايع بالفعل أم لم يبايع، ولهذا كان الحديث دليلاً على وجوب نصب الخليفة وليس دليلاً على وجوب أن يبايع كل فرد الخليفة. لأن الذي ذمّه الرسول عليه السلام هو خلو عنق المسلم من بيعة حتى يموت، ولم يذم عدم البيعة. وروى مسلم عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: «إنما الإمام جُنة يُقاتَل من ورائه ويُتّقى به»

وروى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي عليه السلام أنه قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» . وعن ابن عباس عن النبي عليه السلام أنه قال : «من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية» . فهذه الأحاديث فيها إخبار من الرسول بأنه سيلي المسلمين ولاة، وفيها وصف للخليفة بأنه جُنة أي وقاية. فوصف الرسول بأن الإمام جنة هو إخبار عن فوائد وجود الإمام فهو طلب، لأن الإخبار من الله ومن الرسول إن كان يتضمن الذم فهو طلب ترك، أي نهي، وإن كان يتضمن المدح فهو طلب فعل، فإن كان الفعل المطلوب يترتب على فعله إقامة الحكم الشرعي، أو يترتب على تركه تضييعه، كان ذلك الطلب جازماً. وفي هذه الأحاديث أيضاً أن الذين يسوسون المسلمين هم الخلفاء، وهو يعني طلب إقامتهم، وفيها تحريم أن يخرج المسلم من السلطان، وهذا يعني أن إقامة المسلم سلطاناً، أي حكماً له أمر واجب. على أن الرسول عليه السلام أمر بطاعة الخلفاء، وبقتال من ينازعهم في خلافتهم، وهذا يعني أمراً بإقامة خليفة، والمحافظة على خلافته بقتال كل من ينازعه. فقد روى مسلم أن النبي قال : «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» . فالأمر بطاعة الإمام أمر بإقامته، والأمر بقتال من ينازعه قرينة على الجزم في دوام إيجاده خليفة واحداً.

وأما إجماع الصحابة فإنهم رضوان الله عليهم أجمعوا على لزوم إقامة خليفة لرسول الله عليه السلام بعد موته، وأجمعوا على إقامة خليفة لأبي بكر، ثم لعمر، ثم لعثمان بعد وفاة كل منهم. وقد ظهر تأكيد إجماع الصحابة على إقامة خليفة من تأخيرهم دفن رسول الله عليه السلام عقب وفاته واشتغالهم بنصب خليفة له، مع أن دفن الميت عقب وفاته فرض، ويحرم على من يجب عليهم الاشتغال في تجهيزه ودفنه الاشتغال في شيء غيره حتى يتم دفنه. والصحابة الذين يجب عليهم الاشتغال في تجهيز الرسول ودفنه اشتغل قسم منهم بنصب الخليفة عن الاشتغال بدفن الرسول، وسكت قسم منهم عن هذا الاشتغال، وشاركوا في تأخير الدفن ليلتين مع قدرتهم على الإنكار، وقدرتهم على الدفن، فكان ذلك إجماعاً على الاشتغال بنصب الخليفة عن دفن الميت، ولا يكون ذلك إلاّ إذا كان نصب الخليفة أوجب من دفن الميت. وأيضاً فإن الصحابة كلهم أجمعوا طوال أيام حياتهم على وجوب نصب الخليفة، ومع اختلافهم على الشخص الذي ينتخب خليفة فإنهم لم يختلفوا مطلقاً على إقامة خليفة، لا عند وفاة رسول الله، ولا عند وفاة أي خليفة من الخلفاء الراشدين، فكان إجماع الصحابة دليلاً صريحاً وقوياً على وجوب نصب الخليفة.

على أن إقامة الدين وتنفيذ أحكام الشرع في جميع شؤون الحياة الدنيا والأخرى فرض على المسلمين بالدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلاّ بحاكم ذي سلطان. والقاعدة الشرعية (إن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب) فكان نصب الخليفة فرضاً من هذه الجهة أيضاً.

فهذه الأدلة صريحة بأن إقامة الحكم والسلطان على المسلمين منهم فرض، وصريحة بأن إقامة خليفة يتولى هو الحكم والسلطان فرض على المسلمين وذلك من أجل تنفيذ أحكام الشرع، لا مجرد حكم وسلطان. انظر قوله عليه السلام فيما روى مسلم عن طريق عوف بن مالك «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلّون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف، فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يداً من طاعة» . فهو صريح في الإخبار بالأئمة الأخيار والأئمة الأشرار، وصريح بتحريم منابذتهم بالسيف ما أقاموا الدين، لأن إقامة الصلاة كناية عن إقامة الدين والحكم به. فكون إقامة الخليفة ليقيم أحكام الإسلام، ويحمل دعوته فرضاً على المسلمين أمر لا شبهة في ثبوته في نصوص الشرع الصحيحة، فوق كونه فرضاً من جهة ما يحتمه الفرض الذي فرضه الله على المسلمين من إقامة حكم الإسلام وحماية بيضة المسلمين. إلاّ أن هذا الفرض هو فرض على الكفاية فإن أقامه بعضهم فقد وجد الفرض وسقط عن الباقين هذا الفرض، وإن لم يستطع أن يقيمه بعضهم ولو قاموا بالأعمال التي تقيمه فإنه يبقى فرضاً على جميع المسلمين، ولا يسقط الفرض عن أي مسلم ما دام المسلمون بغير خليفة.

والقعود عن إقامة خليفة للمسلمين معصية من أكبر المعاصي لأنها قعود عن القيام بفرض من أهم فروض الإسلام، ويتوقف عليه إقامة أحكام الدين، بل يتوقف عليه وجود الإسلام في معترك الحياة. فالمسلمون جميعاً آثمون إثماً كبيراً في قعودهم عن إقامة خليفة للمسلمين. فإن أجمعوا على هذا القعود كان الإثم على كل فرد منهم في جميع أقطار المعمورة. وإن قام بعض المسلمين بالعمل لإقامة خليفة ولم يقم بعضهم الآخر فإن الإثم يسقط عن الذين قاموا يعملون لإقامة الخليفة ويبقى الفرض عليهم حتى يقوم الخليفة.

أما مفهوم الخلافة عند اهل العلم من السلف السابقين فهو:

  • وقال الجزيري (في الفقه على المذاهب الأربعة): « اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على أن الإمامة فرض وأنه لا بد للمسلمين من إمام يقيم شعائر الدين وينصف المظلومين من الظالمين وعلى أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان لا متفقان ولا مفترقان… ».
CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )