الرّائد الذي لا يكذبُ أهله, القيادة السياسيّة الصّادقة الواعية

الرّائد الذي لا يكذبُ أهله, القيادة السياسيّة الصّادقة الواعية

لَمّا أُنْزِلَتْ آيَةُ: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشاً. فَاجْتَمَعُوا، فخطب فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
((إن الرائد لا يكذب أهله،… والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءاً، وإنها لجنة أبداً أو لنار أبداً)).

« إنّ الرّائد لا يكذبُ أهله »، قول للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يبيّن به حقيقة القيادة السياسيّة الصّادقة الواعية التي تتقدّم المجتمع من أجل إنقاذه. لا في الدّنيا فحسب بل في الآخرة أيضا. والرائدُ في الأصل هو من يتقدّم قومَه يُبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث؛ فالرّائد إذن هو القيادة التي تتقدّم الجماعة لترشدها إلى الطّريق الصحيح للعيش لتصل إلى أهدافها الحقيقيّة بأمان، وهو ما يُطلق عليه اليوم القيادة السياسيّة
القيادة السياسية لأي أمة هي حاجة ملحة وضرورة لا يمكن الاستغناء، خاصّة في وقت الحاجة إلى التّغيير لأن الأمم بشكل عام عندما تسعى للتغيير، يغلب على حركتها الطابع الشعبي العفوي، فإن لم تتخذ قيادة سياسية تقود حركتها وتنظمها فإنها ستغرق في الفوضى وتفشل وقد تتلاشى. فكيف إذا كانت كما هي حال الأمة الإسلامية الآن يتربص بها كل أراذل الأرض وشياطينها ومجرميها؟!
فأهمّ وظيفة للقيادة السياسية أن تكون الموجه للأمّة مرشدة ناصحة لها، فهي التي تكشف الطريق أمامها وتحذرها من الأخطار، وتذلل لها العقبات حتى تصل إلى هدفها. ولذلك كان من أوجب الصّفات التي يجب على القيادة السياسيّة أن تتّصف بها صفتين: الوعي الصّحيح والصّدق.

 ولا يكون الصّادق صادقا إلا إذا كان واعيا الطّريق الذي يسير فيه متبصّرا به، عالما بمصالح النّاس ساعياإلى تحقيقها. ولا يكتمل الوعي حتّى تكون القيادة السياسيّة الواعية الصّادقة متتبعة لكل من يتربص بالأمة ويكيد لها ويتآمر عليها. فهي التي تكشف المؤامرات قبل وقوعها وتفضح العملاء وتفسد الخطط الإجراميّة.

نستحضر هذا وقد مرّت علينا عشريّة كاملة منذ أن انطلقت الثورة من تونس لتعمّ أهمّ البلدان الإسلاميّة (ليبيا، مصر واليمن وسوريا والجزائر والسودان…) ولكنّ هاته الثّورة بدا أنّها تنحرف عن مسارها لأنّها لم تتحرّ القيادة السياسيّة الصّادقة والواعية

ومن أجل أن نتبيّن دور القيادات السياسيّة الرّاشدة والصّادقة نستعرض بعجالة مسار حركة الأمّة الإسلاميّة (وتونس جزء منها)

فعندما أسقط الكفّار المستعمرون بقيادة الأنجليز الخلافة الدّولة التي كانت تجمع المسلمين، تحركت جموع الأمة ضد قوى الاستعمار بثورات قدمت الملايين من الشهداء، لكن ما لبثت أن وجدت نفسها تحت حكم عملاء الاستعمار الذين نصبهم عليها فرزحت تحت حكمهم وظلمهم عشرات السنين. لأنّها فقدت القيادة السياسيّة الواعية والصادقة،

ففي البداية كان العلماء والمشايخ هم القيادة السياسية للأمة، فصارت أنظمة الجور تقرب المفتين وتعين المشايخ وتبرز المقربين لها، فاصطنعت طبقة من « علماء » السلاطين لترويض الناس تحت حكم هذه الأنظمة المجرمة لعقود كثيرة، وقد كان ذلك جلياً في تونس والسعودية ومصر وغيرها من بلاد المسلمين.

وفي تلك الأثناء كان الغرب الكافر يصنع قيادات سياسيّة علمانيّة تصدّرت المشهد السياسي في البلاد الإسلاميّة ليساعدوه على إبعاد الإسلام عن الحكم وفصله عن حياة المسلمين. وهكذا كان.

وعندما شعرت الأمة بحقيقتهم وثارت عليهم منذ عقد من الزمان، استطاعت الجموع الثائرة أن تخلع عدداً من هؤلاء الحكام المجرمين، كما استطاعت أن تخلخل حكم البعض، لكنها بالرغم من التضحيات الجسام التي قدمتها في تونس ومصر وسوريا وغيرها لم تستطع أن تصل إلى التغيير المنشود، بل كانت النتائج كارثة بكل المقاييس.
ويعود ذلك كله إلى سبب واحد وهو أن الأمة لم تتخذ قيادةً سياسيةً واعيةً مخلصةً تقودها إلى النصر وتحقيق التغيير المنشود. بل ظلّت تسير أو قل تنتظر القيادات السياسيّة التقليديّة التي صنعها الغرب، ففي تونس لمّا أحسّ الغرب بأنّ جموع الثّائرين فقدوا ثقتهم التّامّة في الفئة السياسيّة العلمانيّة دفعوا إلى السّاحة بقيس سعيّد باعتباره شخصا لم يكن له من مشاركة (ظاهرة على الأقلّ) في صناعة المشهد السياسيّ الحاليّ وخرج النّاس يوم 25 جويلية مبتهجين فرحين لأنّهم ظنّوا أنّ التغيير قريب وأنّ الفئة العلمانيّة زالت من الحكم ومن صنع القرار، ولكن بدا مع مرور الأيّام أنّ قيس سعيّد يسير على خطى سابقيه وبدأ التململ والنّقد….

المشكل الحقيقي إلى متى الانتظار هل علينا أن ننتظر لنرى ما يفعله قيس سعيّد أو معارضوه؟

الانتظار فعل سلبيّ سالب للوعي مهدر للطّاقة، فما العمل إذن؟

إنّ أهمّ ما يجب الآن هو تحرّي القيادة السّياسيّة الواعية والصّادقة، وقبل ذلك يجب أن نعي وعيا صحيحا على معنى الصّدق الذي يكون مقياسا حقيقيّا للقيادة السياسيّة:

فليس الصّدق المقصود ههنا أن لا يكذب المتكلّم في أيّ قول، فقيس سعيّد مثلا يقول مجموعة من الحقائق عن اللّصوص وسارقي ثروة الشّعب، ففي خطابه الأخير تحدّث فقال أنّ تونس دولة فقيرة في بلاد ثريّة وأنّ مجموعة من اللّصوص استولت على ثرواتها، غير أنّ المتثبّت في كلامه يرى أنّه ناقص بل مبتور، فهو يلمّح إلى اللصوص تلميحا ويشير إلى مجموعة بعينها هي مجموعة النّوّاب الذين جمّد مجلسهم وإلى اللوبيّات الدّاخليّة التي يخدمونها، ولكنّه لا يشير إلى المستولي الحقيقي على ثروة الشّعب، لا يُشير إلى الشركات الأجنبيّة الاستعماريّة التي احتكرت ثروة تونس، فلم يتحدّث ولو في مناسبة واحدة عن الاستعمار وشركاته لا تصريحا ولا تلميحا، فهل هو صادق؟

أشار قيس سعيّد إلى صندوق النّقد الدّولي وأكثر ما قاله أنّ عليه أن يحترم تونس (هكذا) وماذا عن تفقيره لشعب تونس عن طريق القروض؟ حكومة سعيّد الآن تسعى (بأوامر منه) إلى الاقتراض من صندوق النّقد الدّولي مرّة أخرى، ولا يكفّون عن القول إنّ الحلّ الوحيد هو الالتجاء إليه لإنقاذ تونس، فهل هو واع بأنّ صندوق النّقد هو ذراع الدّول المستعمرة؟ وهل صدق الشّعب في قوله؟

قيس سعيّد ومؤيّدوه ومعارضوه (بزعامة الغنّوشي) متّفقون على إبعاد الإسلام عن الدّولة والسياسة، ومتّفقون أنّ الحكم ليس لله، في مناقضة صريحة وقحة لقول الله تعالى (إن الحكم إلّا لله) فهل هو صادق؟

قيس سعيّد ومؤيّدوه ومعارضوه متّفقون أنّ تونس بلد يجب أن يكون تابعا لأوروبا المستعمر القديم الجديد، فهل صدقنا؟

رسولنا الأكرم صلّى الله عليه وسلّم لمّا وقف يخاطب قومه أوّل مرّة:

صدقهم فأخبرهم بأنّ الله أرسل لهم رسالة هي رسالة الإسلام العظيم، وصدقهم بأن أخبرهم أنّهم سيُبعثون بعد موتهم ليحاسبهم الله فهي الجنّة لمن أطاع والنّار لمن أعرض عن أحكام الإسلام.

فإلى أين يقودنا هؤلاء العلمانيّون؟

إنّهم يقودوننا إلى خزي الدّنيا وذلّها تحت سطوة صندوق النّقد والتبعيّة لأوروبا، إنّهم يقودوننا إلى غضب الله وعذابه في الآخرة.

فإذا تبيّن لنا حقيقة القيادة السّياسيّة العلمانيّة التي تصدّرت المشهد السياسيّ اليوم، فالواجب تركها وعدم السّير وراءها، وتحرّي القيادة السياسيّة الصّادقة الواعية، التي تستمدّ صدقها ووعيها من كتاب الله وسنّة رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم. وفي هذا السّياق لم يبق من أمل للمسلمين إلا حزب التّحرير الحزب الرائد الذي لا يكذب أهله اتّخذ عقيدة الإسلام أساسا متينا وأحكامه منهجا، وتّبع طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

ولقد انشغل حزب التحرير انشغالا بأعمال القيادة السياسية في الأمة بشكل عام وواكب ثورتها بشكل خاص، من خلال مواكبته الحثيثة للأحداثفي تونس ومصر وليبيا واليمن والسودان، فكان حاضراً متابعاً ورائدا لا يكذب أهله، يحذر الأمة قبل كل أزمة، ويعطي المعالجات ويقدم الإرشادات لتجنبها.

لكن واقع الأمة الممزق بفعل عمل الأنظمة المجرمة وأدواتها، وفعل الأحزاب العلمانيّة، وبتأثير الدعاية الكبيرة التي تقوم بها دول الكفر وأدواتها ضد حزب التحرير، كل ذلك حال دون أن تتخذ الأمة الحزب قيادةً سياسيةً لها.

فعلى المسلمين أن يختاروا من يمثلهم بصدق وأمانة، فهم أمة الخير، ولا يصلح إلا حملة مشروع الإسلام العظيم قيادةً سياسية، يسيرون معهم إلى النصر والتمكين بإذن الله، ليتحقق هدف هذه الأمة في إقامة الكيان الذي يقيم لها دينها ويرجع لها عزتها ومكانتها الرائدة بين الأمم، خلافة راشدة على منهاج النبوة. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.

أ, محمد الناصر شويخة

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus (0 )