السّفير الأمريكيّ الجديد بتونس.. أيّة مهمّة؟

السّفير الأمريكيّ الجديد بتونس.. أيّة مهمّة؟

تسلّم الرئيس قيس سعيّد يوم الخميس 2 فيفري 2023 أوراق اعتماد سفراء جدد مقيمين بتونس من بينهم سفير الولايات المتحدة الأمريكية جوي هود، وهذا قد يُعدّ حدثا عاديّا لا يستحقّ التّعليق عليه أو الحديث فيه، لكنّ تقبّل أوراق اعتماد سفير دولة قويّة مثل أمريكا، تسعى إلى الهيمنة والنّفوذ أمر آخر يحتاج منّا إلى وقفة: فهذا الفعل الذي يبدو ديبلوماسيّا روتينيّا يقع في خانة العلاقات الدّوليّة التي يُسعى من خلالها إلى الصّراع على النّفوذ وتحقيق المصالح. وقد يقول المتحذلقون من المحلّلين السّياسيين إنّه لا بدّ لتونس من أن يكون لها علاقات دوليّة خاصّة مع الدّول الكبرى (أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها..) وإنّ هذه العلاقات هي من أجل مصالح تونس..لكن مثل هذه العلاقات مسألة بالغة التّعقيد، لا تقوم فقط على مجرّد المصالح، بل هي محكومة ببنية العلاقات الدّوليّة التي يغذّيها الصّراع سبيلا لتحقيق المصالح، وهي بالتّالي محكومة بما يسمّى النّفوذ على مستوى عالميّ: فأيّ دولة إمّا أن تكون صاحبة نفوذ مؤثّر وإمّا أن تكون ساحة نفوذ لغيرها من الدّول والقوى. فمسألة النّفوذ الأجنبيّ مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسياسة الدوليّة وبهيكل العلاقات الدولية، وبالموقف الدولي ودوله الكبرى الفاعلة فيه ودولته الأولى صاحبة الفعل المؤثّر والقرار النهائيّ في العلاقات الدولية والسياسة الدولية.

ومعلوم أنّ التحكم في العالم على مرِّ التاريخ هو للدول الكبرى، ولا سيما الدولة الأولى، وأنّ أي تحوُّل في ميزان القوى للدول الكبرى هو المؤثّر والفاعل في تبدُّل وتغيُّر الموقف الدولي والعلاقات الدولية والسياسة الدولية، وكذلك في الانعكاسات والآثار المترتّبة على وجهة الدول الوظيفية تبعيةً وعمالةً. وعليه فلا بد من إدراك هذا كله إدراكًا يكشف التحوّلات الطارئة والتغيرات في الموقف الدولي والساحة الدولية؛ حتى يتسنَّى فهم السياسة الدولية وتبعاتها وحتّى يُمكن معرفة آثار العلاقة مع دولة من الدّول: فالعلاقة مع بنما أو السّينغال ليست كالعلاقة مع اليابان وألمانيا، ولا هي من قبيل العلاقة بأمريكا، فبنما والسينغال دولتان ضعيفتان تابعتان، قرارهما السياسيّ بيد القوى الدّوليّة ذات النّفوذ..أمّا العلاقة مع اليابان وألمانيا مثلا، فلئن كانتا دولتين مستقلّتين، غير أنّهما لا تأثير لهما في السّاحة الدّوليّة، وهما إذ تسعيان إلى ربط علاقات بغيرهما فإنّهما لا تستطيعان أن تتجاوزا القوى الدّوليّة المتحكّمة: من ذلك مثلا أنّ اليابان صرّحت أنّها لا يمكنها مساعدة تونس حتّى تعقد اتّفاقا مع صندوق النّقد الدّولي..أمّا العلاقة بأمريكا فهي من صنف آخر، إذ إنّ أمريكا دولة استعماريّة وهي الآن الدّولة الأقوى في العالم، وقد بنت سياستها الخارجيّة على التّفوّق التّامّ أو التفرّد، وهي بذلك تسعى أينما ذهبت إلى الهيمنة وبخاصّة في بلد كان منطلقا لثورة أمّة هزّت العالم وبدا أنّها يمكن أن تؤثّر فيه. فعلاقة تونس بأمريكا ليست من قبيل العلاقات المصلحيّة العاديّة، بل هي علاقة مستعمر بشعب من شعوب المسلمين يبحث عن الاستقلال والتّحرّر من كلّ أشكال الاستعمار، شعب يسعى مع شعوب المسلمين إلى العودة أمّة واحدة قويّة ذات رسالة في العالم تزاحم أمريكا بل تزيحها من قيادة العالم، وهذا الأمر غير خاف على الأمريكان سياسيين ومفكّرين ومخطّطين.

ذلك أنّ تونس كانت إلى وقت ليس بالبعيد ضمن كيان الأمّة الموحّد لها ـ الخلافة ـ وكانت قائدة للجناح الغربي لهذه الخلافة العظيمة، غير أنّه لمّا دبَّ الضعف في كيان الأمّة، واعترى التفكّك والتشرذم جسم خلافتها، وبات الانحطاط سائدا، وشُلَّت حركتها الفكرية المنتجة بالكامل؛ فاستفحل داؤها واستعصت مشاكلها. وجاء الانقلاب الصناعي في أوروبا ليحدث انخراما في ميزان القوى، ثم ظهر المبدأ الرأسمالي الاستعماري المشؤوم ؛ فأصبحت دولة الإسلام هدفًا للتدمير، واستئصال الإسلام غاية استراتيجية، وبلاد المسلمين وثرواتهم مطمع الطامعين. ثم كان القرن التاسع عشر عصر الاستعمار الأوروبي بامتياز، فأخذت دول أوروبا الكافرة تغتصب بلاد المسلمين قطعة قطعة، فبدأ الجزر الإسلامي بعد ذلك المدّ المجيد العظيم. لتتحوّل بلاد المسلمين ومنها تونس إلى دويلة كيان هزيل ضعيف لا مكان له في السّاحة الدّوليّة إلّا التبعيّة، وتحوّلت تونس إلى مسرح لصراع القوى الكبرى الفاعلة في الموقف الدّوليّ.

وعليه فإنّ كلّ حديث عن استقلال تونس هو حديث خرافة لا واقع له، فهذا السّفير الأمريكي الجديد هو حلقة من سلسلة هيمنة أمريكيّة استعماريّة جهنّميّة، ومهمّته في بلاد المسلمين هي إدامة الهيمنة، هيمنة الفكر الغربي الرأسمالي أوّلا ثمّ الهيمنة السّياسيّة والاقتصاديّة حتّى تكون البلاد تابعة لأمريكا وللعالم الغربي. ومن تمام مهمّة السّفير الأمريكي أن يحول دون تحرّر البلاد التي يكون فيها سفيرا، فطبيعيّ إذن أن يعمل على الحيلولة دون ثورة تقود إلى التحرّر والاستقلال. وآية ذلك أنّ هذا السّفير جاء بمهمّة واضحة تتمثّل في:

  • استمرار المسار الدّيمقراطيّ، وهذا يقتضي عدم السّماح للتّونسيين بأن يقيموا دولة على أساس عقيدتهم الإسلاميّة مصدر عزّتهم ومحرّرتهم من كلّ عبوديّة أو تبعيّة، بل يقتضي محاربة أيّ تحرّك أساسه الإسلام.

  • أن تدخل تونس ضمن نادي المطبّعين ضمن اتّفاقيّات « أبراهام » المشؤومة، والتطبيع مع كيان يهود الصّهيوني، هو من أجل ضمان استمرار تقطيع أوصال بلاد المسلمين وجعلهم يقبلون بالتّنازل عن الأقصى وما حوله من الأرض المباركة، والرضا بكيان غاصب مجرم، حتّى إذا ما تمّ لهم ذلك اطمأنّوا إلى اضمحلال أمّة الإسلام.

  • أمّا التّعاون الاقتصادي وحديث السّفير عن أزمة تونس الاقتصاديّة، فيقطر إهانة لتونس وشعبها: فهذا السّفير الدّخيل البغيض يزعم أنّه سينقذ شعب تونس بتوفير فرص عمل جديدة، وهي لا تعني إلّا جعل شباب تونس وطاقاتهم في خدمة الشّركات الأمريكيّة، بما يجرّه ذلك من تبعيّة ذليلة دائمة للاقتصاد الغربي الرأسمالي الذي تتزعّمه أمريكا. هكذا يتكلّم هذا السّفير بوقاحة، وكأنّ أمريكا ليست هي من تسبّب ـ ومازال ـ في أزمات العالم كلّه. وقد أشار إلى  أنه سيعمل على دعم جهود التطبيع مع « إسرائيل » وربط ذلك بالإعانات الاقتصاديّة « لقد أدّى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بما في ذلك من خلال اتفاقات إبراهيم التاريخية، إلى مزيد من السلام والأمن في المنطقة وتعميق الفرص لتوسيع النموّ الاقتصادي والإنتاجيّة » مؤكدا على أنه سيدعم « المزيد من الجهود لتطبيع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع إسرائيل في المنطقة ». وواضح في هذا سياسة أمريكا المتمثّلة في  تحطيم الروح المعنويّة للمسلمين في تونس وجعلهم يقبلون لقمة مغموسة بدم إخوانهم في فلسطين والشّام والعراق..

هذا عن المهمّة الدّائمة لسفراء أمريكا في تونس، أمّا عمّا استجدّ فإنّ أمريكا بعد أن صار لها في ليبيا الغنيّة نصيب، ها هي تستغلّ ضعف النّفوذ الأوروبيّ وتعمل بجدّ على بسط نفوذها في تونس: يظهر ذلك في تصريحات وزارة الخارجيّة الأمريكيّة المتعدّدة التي استغلّت تراكم الأزمات: فلم يفوّت أيّة فرصة وكان يتدخّل عند كلّ خطوة يخطوها الرئيس بالتّعليق والتّهديد، هذا إضافة إلى تقاطر الوفود الأمريكيّة على تونس بشكل غير معهود، ممّا يشير إلى حجم الضّغوطات الكبير الممارس عليها.. وقد اتّضح ذلك في زيارة الرئيس سعيّد إلى أمريكا ومقابلته مع وزير الخارجيّة التي كانت شبه محاكمة له ولمن معه، وفي الصّفعة التي تلقّاها الوفد التّونسي من صندوق النّقد الدّولي، إذ حذف مجلس الصّندوق اسم تونس من الاجتماع الذي كان مقرّرا يوم 19 ديسمبر بشكل مهين وغير مسبوق، ويبدو أنّ الإدارة الأمريكيّة هي من كانت وراء هذا الإلغاء.. بما يعني أنّ الأمريكان وعلى غير العادة قرّروا الدّخول في السّاحة التّونسيّة بالضّغط العالي..

فهل أنّ ارتهان تونس ومثيلاتها من العالم الإسلامي قدر محتّم..؟؟ ألم تمرّ على تونس فترات في التّاريخ كنّا فيها مستعمرين مستعبدين، ثمّ تحرّرنا..؟؟ أين البيزنطيّون الذين أرهقونا، وأين الإسبان الذين حوّلوا جامع الزّيتونة المعمور إلى إسطبل لخيولهم، وأين جنود فرنسا الذين أذاقهم المجاهدون الويلات..؟؟

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )