الفتوى بين التيسير والتبرير

الفتوى بين التيسير والتبرير

الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وأخرج البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا».

فالمشقّة تجلب التيسير، ولا تكون مدعاة للتبرير. ورفع الحرج من باب التيسير، وهو من الشّريعة، وليس هو رفع الشّريعة للحرج، فهذا من باب التبرير وليس التيسير. ومقاصد الشّريعة – رغم الاختلاف فيها وفي كيفية التّعامل التّشريعي معها – معتبرة، وهي مقاصد للشّريعة وليست مقاصد دون الشّريعة.

قد يقول قائل: بعد هذه المقدّمة، هل من أمثلة توضّح الفرق بين الأمرين؟ والجواب هو:

بداءة نقول: أنّ كلمة التبرير كلمة حديثة، ويبدو أنها ترجمة لمعنى (Justification)، وتستعمل عوضا عن كلمة التسويغ، وهو أنّ يزّين المرء القبيح ويجوّزه. وقد عرّفت موسوعة ويكيبيديا التبرير بأنه « عبارة عن أعذار وأسباب تبدو للنظرة العابرة مقنعة ومنطقية ولكنها ليست الأسباب الحقيقية والدوافع الفعلية وراء السلوك وهي عبارة عن تبرير لسلوك الفرد ومعتقداته الذي يعتقد هو في قرارة نفسه أنه خاطئ، فضابط الشرطة الذي يقسو على المتهمين يختلق عيوبا تبرر سلوكه نحوهمومن شأن هذا السلوك أن يحرم صاحبه من التبصر بأفعاله والتحكم فيها ومراجعه أخطائه ومن ثم قد يتورط في الجريمة. ويختلف التبرير عن الكذب، بأن الأول (التبرير) يكذب فيه الإنسان على نفسه، في حين يكون الثاني (الكذب) بأن يكذب الإنسان على الناس. وهذه الآلية الدفاعية تقدم أسباباً مقبولة اجتماعياً لما يصدر عن الإنسان من سلوك وهو يخفي وراءه حقيقة الذات ».

فالفتوى هي الإخبار عن الحكم الشرعي. فإذا جدّت مسألة أحتاج النّاس إلى معرفة حكم الشرع فيها، تصدّى الفقيه المفتي لبيان واقعها من وجهة نظر شرعية حسب منهجية شرعية أصولية معتبرة. وقد يكون حكم الشرع فيها الحرمة مثلا، فمن الفقهاء من يفتي بالحرمة، وهكذا يبيّن علاج الشرع للمسألة، ولكن من الفقهاء من لا يعدّ التحريم حكما وعلاجا شرعيا للمسألة ويتصوّر أن مواكبة الشريعة للزمان تقتضي التحليل، فيقول بالحلّ ويحاول ليّ عنق النصوص والأدلة والاستئناس ببعض الآثار والأقوال ليصل إلى نتيجة التحليل.

فمن المعلوم مثلا أنّ الشّرع حرّم الربا، والبنوك الحديثة تتعامل بالربا، لذلك كانت القروض التي تقرضها من الربا فلا يجوز التعامل معها. ولكن من الفقهاء، من يحاول أن يقنعنا بأنّ معاملات البنوك الحديثة المعاصرة ليست كالمعاملات التي تناولها الفقه الكلاسيكي، وأنّ عقودها مستحدثة تحتاج إلى فقه جديد واجتهاد جديد يقوم على مراعاة المقاصد والمصالح تيسيرا على العباد. وهذا في حقيقته ليس من باب التيسير إنما من باب التبرير؛ لأنّ الواقع الفاسد الذي نعيشه، والنظام الرأسمالي الذي يطبّق على المسلمين لا علاقة له بالإسلام ولا بأحكام الشريعة، والأصل أن يبيّن حكم الشرع فيه وهو وجوب تغييره، ولكنّ بعض النّاس يزيّنون هذا الواقع ويكيّفون الشريعة لتتوافق معه، فيصبح وجوده شرعيا بفتاواهم رغم أنّه في الأصل فاسد وغير شرعي. وهكذا يميّع الدين، وتميّع أحكامه، وينسى النّاس أنّ الأصل تغيير هذا الواقع لا القبول به.

فليحذر دعاة الترخّص ورفع الحرج والمقاصد، من الوقوع في فخّ التبرير أي تبديل الشّريعة بأحكامها وأصولها وعلومها المقرّرة وقواعدها المقنّنة لتوافق الواقع العلماني المغيّب للشريعة نفسها.

ياسين بن علي

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )