أمريكا بقيادة ترامب, قراءة في مستقبل العلاقات الدّوليّة

أمريكا بقيادة ترامب, قراءة في مستقبل العلاقات الدّوليّة

منذ تولي دونالد ترامب عادت بشكل لافت حركة هنري كيسنجر على الساحة السياسية وعاد باتريك بوكانن بقوة إلى المشهد الإعلامي ووضعت أطروحاته ورؤاه على الطاولة مرة أخرى، فكلاهما يساعد ترامب علنا بشكل أو بآخر، فكيسنجر الذي كان من دعائم سياسة الوفاق بين الاتحاد السوفياتي وأمريكا ومدبّر ومنفّذ فكرة العلاقات المفتوحة مع الصين في السبعينات، يفتح الأبواب ويقرب الرؤى لتطوير العلاقات المتعثّرة بين الإدارة الأمريكية وروسيا من خلال مقابلاته مع بوتين، ولعل أبرزها لقاء بوتين في اجتماع مغلق اعتبره المحللون تهيأة للقاء ترامب ببوتين، فبعد اللقاء أدلى كيسنجر بتصريحات تفيد أنّ لدى الدولتين مسؤولية وفرصة لتحقيق تقدّم فعال في تطوير العلاقات وتحسين الوضعية في العالم عبر الجهد الثنائي، وخلال مداخلته في دافوس أكّد كيسنجر على أهمية العلاقات بين روسيا وأمريكا. ومن قبل قد تفاجأت الصحافة بتواجد كيسنجر إلى جانب ترامب عند لقاء الرئيس بوزير خارجية روسيا في اجتماع مغلق في البيت الأبيض، كما أنه حسب تقرير نشرته نيويورك تايمز فإنه عمل على ربط العلاقات بين بعض السياسيين في الصين وموظفي الإدارة الأمريكيّة، كما زار رئيس الصين في بيكين ليطلعه على تطلعات أمريكا إنشاء علاقات قوية مع الصين، أضف إلى ذلك تصريحات كيسنجر المرحبة بقدوم ترامب لعل أهم تصريح له هو قوله أن لدى ترامب فرصة أن يدخل التاريخ كأحد أفضل رؤساء أمريكا… هذا بالنسبة لكيسنجر. وبالنسبة لباتريك بوكانن فقد كثر الحديث وكثرت التهكمات من قبل معارضي ترامب بأنه (اي ترامب) يعتمد بالكلية على أطروحات باتريك بوكانن، بل ذهب البعض للقول بأن هذا الأخير هو من رسم له حملته الانتخابية، وانتقد الإعلام الأمريكي الموالي لهيلاري في فترة الحملة تعويل ترامب على أطروحات بوكانن – التّي اعتبروا أنه قد عفى عليها الزمن، في نفس الوقت وجدنا باتريك بوكانن مدافعا شرسا على ترامب في وسائل الإعلام وفي وكتاباته حيث أعتبره المنقذ الفعلي لأمريكا.
إذا لا يستغرب مادام كيسنجر وراء دونالد ترامب بأن تمضي أمريكا في سياسة معادية لأوروبا متوافقة مع روسيا والصين، مما يؤكّد أنّ حملة ترامب على أوروبا ليست ضرفية بل هي استراتيجية تهدف إلى إعادة حقبة شبيهة بحقبة الوفاق التّي شهدها العالم بين أمريكا والسوفياتي في السبعينات والتّي أبعدت فيها أوروبا كليّا عن الموقف الدولي. وأرجّح أن العقوبات أو تصريحات بعض المسؤولين في الكنغرس ضدّ روسيا أو الصين ليست جديّة أي أنها لا تندرج ضمن أيّة استراتيجيّة للصدام بل هي أعمال عرقلة لترامب حتى يعيد هذا الأخير اعتبارا أكبر للكنغرس ولا يتوهم بأنه قادر على أن يسير بكلّ حريّة في مخططاته دون الرجوع إلى الكنغرس.
وما دام باتريك بوكانن المناهض للعولمة والانفتاح الاقتصادي وراء ترامب فكذلك لا يستغرب الهجوم الحاد على المهاجرين والتركيز على إعادة عجلة الانتاج الأمريكيّة والعجز في الميزان التجاري، فشعارات « أمريكا أولا » و »اشتري أمريكيا – وضّف أمريكيا » شعارات أطلقها باتريك بوكانن منذ 2001 أو حتى قبل ذلك. ونرى أنّ ترامب ماض في ذلك فقد وقّع أمرا تنفيذيّا لإنشاء مكتب سياسة التجارة والصناعة مكلف بتنشيط الصناعة في أمريكا وتقليص العجز التجاري والذي بدأ بمراجعة اتفاقيات التجارة التّي وقعتها أمريكا مع دول أخرى، ولنفس السبب ألغى ترامب قوانين السلامة في استخراج البترول تلك القوانين التي تفرض قواعد سلامة عالية تثبط عزائم الشركات البترولية الأمريكيّة الصغرى والمتوسطة على الاستثمار في السواحل الجنوبية الشرقية لأمريكا على المحيط الأطلسي والسواحل الألاسكية ليترك القرار للولايات وهو ما سيشجع الشركات البترولية الأمريكيّة الصغيرة والمتوسطة على الاستثمار وبالتالي خلق مواطن شغل جديدة بالإضافة إلى تصدير الانتاج الذّي سينعش أكثر فأكثر الميزان التجاري، كما أطلق مجموعة من الأوامر لحماية مصانع الحديد والألومنيوم من خطر استيراد تلك المواد من الخارج وأوقف دخول اللاجئين وكثف الرقابة على الحدود، كما قام بتغييرات كبيرة على منظومة « الغرين كارد » لدفع الشركات لتوضيف الأمريكيين وبدأ بمراجعة قوانين منح الجنسية.
سيكون تركيز ترامب على أهداف هي جلب الثروة لأمريكا وإنشاء الوظائف وبناء اقتصاد يغلب عليه الطابع الوطني وسيفرز المضيّ في تحقيق هذه الأهداف صراعات كثيفة على غرار الصراع القائم الآن في الجزيرة العربيّة بين قطر ودول الخليج، وتوتر كبير مع أوروبا على غرار التوتر القائم مع ألمانيا وتمرّد على اتفاقات دوليّة على غرار اتفاقات المناخ… لذا يجب قراءة مواقف ترامب الحالية والمستقبلية على ضوء ما سبق ذكره.
إنّ المعرقل الوحيد أمام ترامب الآن هو الكنغرس، لهذا السبب تجده قد تجاوز التسعين أمرا تنفيذيا منذ الشهر الأول من توليه السلطة ورشّح الكثيرون أنه سيكون له الرقم القياسي في تاريخ أمريكا حيث أن أوباما وقع تقريبا 200 أمر تنفيذي طيلة ثمان سنوات, بل من الرؤساء من لم يوقع سوى على حوالي 30 أمر تنفيذي، فقلة أو كثرة الأوامر التنفيذية مؤشّر على مدى انسجام الكنغرس مع الرئيس. فبالرغم من محاولات كيسنجر وترامب توطيد وتطبيع العلاقة مع روسيا يفاجئه الكنغرس بعقوبات جديدة على روسيا ومن قبلها عرقل الكنغرس الكثير من مشاريع القوانين التّي قدمها ترامب، بعضها مشاريع وعد بها في حملته الانتخابية..
سيستمر تلاعب أمريكا بسعر صرف الدولار كأداة لإخضاع الدول نظرا لارتباط منتجات الطاقة بالدّولار فأسواق الطاقة لا تسمح تداول السلع إلاّ بالدّولار وستواصل العمل على توجيه المستثمرين إلى الاستثمار في سندات الخزينة الأمريكية وذلك من خلال ترفيع نسبة الفائدة التي يضعها البنك الفدرالي علما وأنّ ترامب وضع على رأس مجلس إدارة البنك الفدرالي رئيس شركة Goldman Sachs إحدى الشركات المتسببة في الأزمة الاقتصاديّة.كما أنّ ترامب يسعى بشكل جدّي إلى إلغاء « الرقابة المالية والقيود » التّي وضعها الرئيس السابق باراك أوباما بعد أزمة الرهن العقاري في 2008 (Dod Frank Reform) والتّي ستفتح الباب مجدّدا أمام جشع الشركات المالية الكبرى التّي هزّت العالم في أكثر من مرّة، وهو ما سيضعف الاقتصاد الأوروبي الذّي يشارف على أزمة ديون لا مخرج منها إلاّ إلغاء الاتحاد الأوروبي، وبالتالي يمكن القول بأنّ موازين القوى هي لصالح أمريكا ثمّ روسيا وأنّ الاتحاد الأوروبي في وضع صعب.

سلمان غرايري

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )