بيروت تنزف داخل سجن « سايكس بيكو »

بيروت تنزف داخل سجن « سايكس بيكو »

كانت الاتفاقية التي وقعها القنصل العام لفرنسا في بيروت « جورج بيكو »مع المندوب البريطاني لشؤون الشرق الأدنى « مارك سايكس » لتقسيم  الولايات العربية للخلافة العثمانية بمثابة سجن تفصل بين زنزاناته جدران وحواجز، وحتى يتلهّى المساجين عن وحشة السجن وضيقه وصنوف العذاب التي يلقونها. سموا كل زنزانة فيه بالوطن وجعلوا لكل وطن اسما ورسموا على كل باب علما يختلف على الآخر وقد أنخدع كل من في السجن بهذه الحيل وطفق كل فريق يتغنى بمحاسن زنزانته ويمجد علمه ويعبر عن استعداده ليفديه بدمه وروحه. وبما أن حبل الخدع والحيل قصير وسيأتي اليوم الذي يدرك فيه من داخل السجن أنهم خدعوا وأنهم بفقدان دولتهم دولة الخلافة التي تطبق أحكام الإسلام في الداخل وتحمله للعالم، فقدوا عزتهم وكرامتهم وأصبحوا حبيسي الذل والهوان. لتفادي كل هذا وضع المستعمر على كل زنزانة وعلى كل عنبر سجّانا من بني جلدتنا يحكمنا بالحديد والنار ويطبق علينا ما أملاه عليه مسؤوله الكبير بتفاني وإخلاص. والويل كل الويل لمن يحاول كسر الأصفاد ويسعى  للتخلص من استعباد أحفاد « سايكس » و »بيكو ».

هذا وتختلف زنزانات سجن « سايكس بيكو » من حيث المساحة وعدد النزلاء وتلتقي عند نقطة واحدة هي ضنك العيش وقسوة المعاملة والحرمان المطلق من التمتع بالخيرات الموجودة والثروات الطائلة التي صادرها السجانون وقدموها هبات وهدايا « للمسؤولين الكبار«  ومعها شعوبهم كقرابين تهرق دمائهم على أعتاب سفارات القوى الاستعمارية كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.

ما يربو عن مائة عام والمسلمون يتجرعون الوجع تلو الوجع وتتنزل عليهم الويلات والمصائب تترا خلف أسوار ذاك السجن البغيض ويعانون الأمرين جراء النظام الوضعي المطبق عليهم داخل زنازين قالوا لهم هي أوطانكم تموتون من أجل أن تحيا هي. وما حصل مؤخرا في بيروت خير مثال على بشاعة هذا السجن وبرهان قاطع على فساد النظام الذي تسير الحياة فيه وعدم أهلية القائمين عليه شأنهم شأن كل حكام بلاد المسلمين من جاكرتا حتى شواطئ تطوان.

تحريك السكين في الجرح

لم يكن الانفجار الذي دكّ بيروت وحول جزء كبيرا منها إلى كومة حطام وجعل مئات الآلاف من سكانها مشردين يلاحقهم شبح الجوع و تتربص بهم الأوبئة أينما حلوا بداية الكارثة. فالمآسي حطت رحالها ببيروت لحظة انفصالها عن بلاد الشام حيث كان أهلها بجميع طوائفهم يعيشون في رحاب الخلافة لا يخشون بخسا ولا رهقا. فلا وجود للتناحر والاقتتال ولا مديونية ماحقة ولا جبال نفايات تنشر الموت في كل مكان, ففي ظل الخلافة العثمانية كان يوجد تعايش بين جميع الطوائف وكان الخلفاء العثمانيون يعاملون الجميع بمساواة حسب ما توجبه وتفرضه أحكام الإسلام. فالخلفاء العثمانيون كانوا يصدرون فرمانات بإنشاء العديد من الكنائس في لبنان حتى أن عدد المسحيين في عهد الخلافة العثمانية بلغ ثلاث مائة مليون مسيحي واليوم لا يتجاوز عددهم ثلثين مليون، فمن هجرهم؟ العثمانيون أم تلك الدول الاستعمارية التي تدعي نصرة الأقليات؟ كما ان الخلافة العثمانية هي التي بنت الكثير من المباني والجسور والمدارس والمصانع وأوجدت الحدائق العامة وخطوط سكك الحديد الساحلية والداخلية.. ومنهم صوامع القمح التي صمدت أمام انفجار المرفأ في بيروت، وبعد مائة عام لا قطار ولا سكك حديد وانهيار مفزع في البنى التحتية ونظام سياسي طائفي فاشل وأزمات شتى بين نفايات وأزمة كهرباء وصرف صحي وفي رد على  تصريح للرئيس « مشال عون » قال فيه « ..الخلافة العثمانية مارست إرهاب دولة ضد اللبنانيين..  » كتب الكاتب « فخر الأيوبي » « السراي الحكومي والصنايع والأشرفية ووسط بيروت والمرفأ كلها مباني شيدتها الخلافة العثمانية. أنتم ماذا فعلتم؟ » أما الكاتبة « هبة عنتر » فلخصت المسألة بقولها « أيام العثمانيين كان الناس يعيشون بكرامة » نعم الكرامة التي حرمت منها بيروت بعد أن زجّ بها في سجن « سايكس بيكو » وحبسوها كما فعلوا بشقيقاتها في زنزانة الوطنية المظلمة وأثخنوها بالجراح إلى أن خارت قواها وأشرفت على الهلاك. الكل يتحدث عن هول الكارثة التي حلت ببيروت جراء الانفجار في أحد مخازن المرفأ ويتهم مجموعة من الموظفين الفاسدين والحال أن الكارثة كما أسلفنا الذكر حلت ببيروت بمجرد أن جلس « جورج بيكو » مع « مارك سايكس » ووضعا على الطاولة الخريطة الجديدة للعالم الإسلامي.

الاستعمار « عود على بدء »

لم يمض على حدوث الانفجار وقت طويل حتى حطت طائرة الرئيس الفرنسي « مانيوال ماكرون » بمطار بيروت ثم تحول رأسا إلى مكان الفاجعة مما يوحي بأن الانفجار حصل في أحد المرافئ الفرنسية و ليس في بيروت وكعادة عبيد المستعمر وأذياله اصطف المطبلون للإشادة بالموقف الفرنسي خاصة وأن « ماكرون » سبق جميع المسؤولين في لبنان وكان أول من قام بزيارة ميدانية وطاف أرجاء بيروت وعاين عن كثب الأضرار ومخلفات الانفجار الكارثية. كما أنه استمع للعدد من المنكوبين ووعدهم بتقديم المساعدة في أقرب الآجال متوعدا حكام لبنان الفاسدين بالمحاسبة.

ما قام به الرئيس الفرنسي أمر طبيعي لأن فرنسا تتعاطى مع لبنان على أساس كونه حصتها في الإقليم فبعد الحرب العالمية الأولى ومع تفكك الخلافة العثمانية اعترفت الدول المنتصرة بحق فرنسا بأخذ لبنان حصة لها  بعد تقسيم بلاد الشام وفق اتفاقية « سايس بيكو » وهكذا كانت فرنسا هي من خلقت كيان لبنان إيفاء بوعدها للبطرياك الماروني « الياس حويك »سنة 1920 وهي المناسبة التي سيعود الرئيس الفرنسي إلى بيروت الشهر القادم للاحتفال بها. كما أن فرنسا لعبت دورا محوريا في اندلاع الحرب الأهلية حيث غذت الانقسامات إذ كان اليمين اللبناني ينادي بفينيقيته، فيما كان اليسار والتيارات القومية العربية تنادي بعروبة لبنان ومن ابرز أوجه الهوية الفينيقية هو التماهي مع الثقافة الفرنسية قلبا وقالبا مما كان يستفز الطرف الأخر مما خلق أرضية خصبة لزرع الفتن وبيئة مناسبة لاحتضان الاقتتال الطافي لتكون النتيجة تدمير لبنان ورميه في أتون التناحر والانتصار للطائفة دون سواها والأخطر هو التبعية المطلقة للأعداء أمثال فرنسا التي وضعت النظام السياسي للبنان والذي انتقده  الرئيس « مانيوال ماكرون » ودعا إلى تغييره بأخر، والأكيد سيكون أشد وأنكى على أهلنا في لبنان ويطيل قبوعهم في غياهب سجن « سايكس بيكو » إلى أن يحين موعد وعد الله وتدك جدرانه معاول دولة الخلافة..

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus (0 )