تونس في حاجة إلى دولة

تونس في حاجة إلى دولة

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أصبح آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها”.

يلخّص الحديث الشريف حاجات الإنسان الأساسيّة، الأمن والصحّة والغذاء. وهي حاجات إن اختلّت اختلّت معها الحياة واضطربت، وهذا ما يحدث في تونس منذ عقود فحاجاتنا الأساسيّة في اضطراب مستمرّ، إذ انعدم الأمن أو يكادأمّا الصحّة فمريضة تشهد عليها حالة المستشفيات وندرة الدّواء، أمّا الغذاء فيُهدّده شبح النّدرة، خاصّة بعد فقدان كثير من الموادّ الأساسيّة من السّوق.

فأين الدّولة؟

الدّولة منوط بها رعاية شؤون النّاس وتأمين حاجاتهم الأساسيّة. فهل توفّر الدّولة هاته الحاجات؟

أجمع « الخبراء » والسياسيّون أنّ الدّولة في تونس تفتقر إلى سياسة واضحة المعالم، فالأمن الغذائي مرهون بمقدرة الدولة على تحقيق ما يكفي أو يزيد من الإنتاج الزراعي لكافة رعاياها، ولا تكون معتمدة على الغذاء المستورد من الدول الأخرى؛ ونحن في تونس نستورد %84 من حاجتنا من القمح اللين %40 من القمح الصلب و%50 من الشعير ». ثمّ إنّ ما نزرعه من بذور وما تحتاجه من أسمدة أغلبه مستورد، ما يعني أننا جُعلنا شعباينتظر غذاءه من الخارج.

فما هو العلاج الذي اتّخذته الدّولة؟

خرج الرئيس (متأخّرا كالعادة) يوم الخميس الماضي ليُعلن (خلال لقائه، بنجلاء بودن رئيسة الوزراء.) انطلاق « عملية تطهير » البلاد من المحتكرين والمضاربين بالمواد الغذائية الأساسية.وقال: « اليوم بدأت العملية لتطهير البلاد من هؤلاء المحتكرين المجرمين المضاربين ».

وكأنّ المحتكرين والمضاربين هم السبب. نعم الاحتكار والمضاربة عمّقت الأزمة، لكنّ الأزمة لا تكمن في الاحتكار إنّما الأزمة في الدّولة التي تفتقد إلى سياسات واضحة، الأزمة في الدّولة التي جعلت غذاء شعبها بيد أعدائها، فكلّ غذائنا مستورد، هذا هو المشكل الحقيقيّ، أمّا الاحتكار والمضاربة فمشاكل هامشيّة لا تظهر إلا في حال النّدرة التي سبّبتها أصلا سياسة الدّولة إن كان لها من سياسة،

يتعلّل الرئيس ووزراؤه أنّ الأزمة ناتجة عن الفساد والاحتكار، بما يعني أنّنا لو قضينا على المحتكرين والمضاربين لزالت الأزمة. والحقيقة أنّ الاحتكار والمضاربة هما نتيجة لندرة السّلعونحن في تونس نعيش الأزمة في زمن النّدرة وفي زمن الوفرة، لا فرق، فقد حبانا الله بإنتاج وفير منذ سنوات قليلة، في اللحوم والحليب والقمح وزيت الزيتون والتمر،فماذا حصل؟ هل كنّا في بحبوحة؟ هل انخفضت الأسعار؟ هل تحسّنت المقدرة الشرائيّة؟ لقد شهد الجميع أنّ الأزمة تضاعفت، وظهر عجز الدّولة عن تخزين إنتاج الفلاحين الوفير وضاعت الوفرة بل تحوّلت إلى أزمة.

وهذا يعني أنّ سبب الأزمة هي الدّولة نفسها، بل إنّنا نتساءل: هل عندنا في تونس دولة؟

الأمن منعدم، والصّحّة عليلة والغذاء قليل مهدّد، هذه حاجات النّاس الأساسيّة وبدونها تنعدم الحياة. فما هو دور الدّولة إن كانت لا تستطيع تأمين الحدّ الأدنى من الحاجات الأساسيّة؟

عجز الدول عن توفير الغذاء لرعاياها يجعلها مرتهنة لغيرها، فاقدة للسيادة والإرادة، فهل هذه دولة؟

الحاجة إلى دولة حقيقيّة توفّر الأمن الغذائي: خطوط عامّة عن الأمن الغذائي في الإسلام:

لا يخفى على أحد خطورة عدم توفير لقمة العيش للناس في الظروف العادية، فكيف تكون الحال في ظلّدويلة هزيلة سلّمت أمورها كلّها للنظام الرأسمالي العالميّ، وكم من دولة سلمت مقدراتها وخيراتها لغيرها من أجل الحصول على رغيف الخبز، ويبدو أنّنا في تونس وصلنا إلى حالة تسوّل رغيف الخبز، إذ الجميع يسمع كلّ يوم أنّنا إذا لم نوافق على شروط صندوق النّقد والبنك العالميين فإنّ الأجور لن تُصرف، وإنّنا سنعجز عن استيراد الغذاء والدّواء.

كيف عالج الإسلام نقص الغذاء:

 إن توفير الحاجات الأساسيّة وبخاصّة الغذاء مسؤولية عظيمة، فالإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، ومن تمام مسؤوليّته ورعايته توفير الأقوات للناس، حتى لا يجوعوا أولًا، وحتى تبقى الأسواق عامرة بالمواد الغذائية فتستقر الأسعار، ويقطع دابر المحتكرين. وخاصة الاحتكار العالمي الذي تقوم به حفنة من الرأسماليين. ومن باب الرعاية أن يحسب الإمام حسابًا لأوقات الحروب والقحط والكوارث الجسام، حيث تقل الزراعة، وتضعف إمكانية نقل المواد، وبما أن حفظ النفس واجب فإن توفير الغذاء والتحسّب له واجب من أعظم واجبات الدّولة، لأن القاعدة الشرعية تنصّ على أنّ (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

وقد اهتم الإسلام بالزراعة باعتبارها عصب الغذاء الرئيسي، فهي تشكل المصدر الأول في الاقتصاد، إضافة إلى الصناعة والتجارة وجهد الإنسان. فالأرض أساس الزراعة، والإنتاج جزءٌ من طبيعة تكوينها، ولو لم يقم بزراعتها أحد. وبلادنا فلاحيّة بالأساسأرضها تكفينا وزيادة، ولكنّها تفتقر إلى سياسة رشيدة وحكيمة..

تتوفّر في بلادنا المقوّمات الرئيسيّة لفلاحة تكفي أهل تونس من أراض صالحة للزراعة وموارد مائيّة وطاقة شبابيّة خلّاقة وموارد ماليّة:

  • الأراضي الصالحة للزراعة:

الأراضي الصّالحة للزراعة في تونس مساحتها كافية لكنّها مهملة أو معطّلة بفعل قوانين وضعيّة جائرة ظالمة، وقد حثَّ الإسلام على الزراعة والاهتمام بالأراضي الزراعية؛ لذلك كانت السياسة الزراعية في الإسلام تقوم على أمر واحد مهم، ألا وهو زيادة الإنتاج الزراعي، وكانت تتبع طريقين في ذلك:

أ‌- التعميق في زيادة إنتاج الأرض، بالاعتماد على بذورنا الأصليّة والعناية بتوفير البذار وتحسينها، بدل التعويل على البذور المستوردة وتشجيع المختصّين لتطوير الأساليب لتحسين الإنتاج وتكثيره،وتوفّر الدولة المال اللازم للعاجزين، هبة وليس قرضًا؛ من أجل شراء ما يلزمهم من الآلات والبذور والمواد الكيماوية؛ لزيادة الإنتاج والعناية بالمرافق التي تساعد على هذا الازدياد.

ب‌- التوسيع في زيادة المساحات التي تزرع، بتشجيع زراعة كافّة الأراضي، ويكون ذلك بمحو كلّ القوانين الوضعيّة الجائرة المتعلّقة بالملكيّات العقّاريّ (الأراضي الاشتراكيّة مثلا)، وتشجيع إحياء الأرض الموات وتحجيرها، امتثالالقوله صلى الله عليه وسلم : “من أحيا أرضًا ميتة فهي له”. وتعمل الدولة على إقطاع الأراضي من ملكيتها للقادرين على الزراعة لمن لا يملك أرضًا أو يملك مساحات قليلة، وتأخذ الدولة الأرض جبرًا من كل من يهملها ثلاث سنوات متتالية.

بهذين الطريقين يمكن زيادة الإنتاج الزراعي، وهذه الزيادة يجب أن تكون في أربعة أمور:

  • زيادة الإنتاج في المواد الغذائية لكي تطعم المزيد من السكان، ولإبعادهم عن خطر المجاعة، وتكون مهيَّأة لأي طارئ.

  • زيادة الإنتاج من المواد اللازمة للكساء كالقطن والحرير والصوف،

  • زيادة الإنتاج في المواد التي لها أسواق في خارج البلاد، سواء من المواد الغذائية كالحبوب وزيت الزيتون أم من مواد الكساء كالقطن والحرير.

  • العمل على رفع العراقيل أمام المواد المهمة لتسهيل زيادتها وجلبها إلى الدولة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما رواه أبو عبيد “كان عمر يأخذ من النبط من الزيت والحنطة نصف العشر، لكي يكثر الحمل إلى المدينة، أي لكي يرغب في جلب الزيت والقمح إلى المدينة وكان يأخذ من القطنية العشر”.

وكما تتطلب الزراعة أراضٍ لزراعتها، كذلك لا بد من توفر موارد عدة لكي تتم الزراعة وزيادة الإنتاج ومن هذه الموارد:

  • الموارد المائية:

بلادنا لا تفتقر إلى الماء كما تزعم التقارير المزيّفة التي يشرف عليها البنك الدّولي إنّما تفتقر إلى الرشد والحكمة في استعمالها ومنعها من الهدر والضياع، ففي تونس ما يكفينا لزراعة الأراضي الصالحة، واستصلاح أراضٍ أخرى.

3- الموارد البشرية:

الموارد بشريّة في بلادنا كافية بل مضيّعة نعم هناك سياسة متعمّدة لتضييع طاقات الشّباب، حتّى بلغوا درجة اليأس من بلادهم، وألقوا بأنفسهم في بحار الموت من أجل مستقبل مجهول، فهم يحتاجون إلى دولة تحتضنهم وتشجّعهم وتمكّنهم من الأراضي وتسهّل لهم عمليّة الإنتاج، فشبابنا طاقة كافية نحتاجها في بناء بلدنا، وإنّ سياسة الإسلام الحكيمة توجب على الدّولة أن تحتضن شبّانها وتُمكّنهم، وسيكون القضاء على البطالة وعلى الفقر بتشغيل القادرين على العمل حيث تستغل الدولة الأراضي الميتة وتقطعها إلى الفقراء لكي يحيوها ويزرعوها

4    الموارد المالية:

إن زراعة الأراضي واستصلاحها وإحياءها يحتاج بلا شكّ إلى أموال كثيرة، وهذه الأموال موجودة في ثرواتنا التي سلّمها الحكّام إلى الشركات الأجنبيّة العابرة للقارّات، فأموال الفوسفاط وغاز الجنوب تكفينا وحدها لسنة واحدة أن تتغيّر حال الزّراعة وتتغيّر معه أحوال مئات الآلاف من الشّباب العاطل.

وإن سلّمنا جدلا (كما يزعم المبطلون) أنّ الموارد الماليّة شحيحة، فلا أقلّ من إعادة ترتيب الأولويّات، وجعل الفلاحة على رأس تلك الأولويّات، فالنّهوض بها أمر ميسور وزمنه قليل، يكفي الاهتمام بدورة زراعيّة واحدة (سنة واحدة) ليكون الإنتاج الوفير، كما حدث مرّات ولكن يجب الاستعداد له بسياسة تخزينيّة حكيمة، تقوم بها الدّولة وتوجّه نحوها العائلات.

أ, محمد الناصر شويخة

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )