دور المعارضة التونسية في تثبيت النظام

دور المعارضة التونسية في تثبيت النظام

المعارضة: بين التعريف اللغوي والواقع السياسي

يعني مصطلح (المعارضة) في السياسة في الاستعمال الأكثر عمومية أية جماعة أو مجموعة أفراد يختلفون مع الحكومة – على أساس ثابت وطويل الأمد عادة – ولو أن المصطلح يمكن أن يصف المعارضة المتعلقة بالقضايا في إطار تشريع واحد أو اقتراح سياسة. ويطبق المصطلح على نحو أكثر تحديدا على الأحزاب في المجلس النيابي التي تختلف مع الحكومة وترغب في الحلول محلها.

ليس من السهل أو اليسير عند البعض تعريف المعارضة السياسية، أو تحديد هويتها بشكل دقيق وواضح، والسبب في ذلك يعود إلى اختلاف هذا المفهوم بين طرف وآخر تبعاً لإطاره السياسي، أو للمرجعية الأيديولوجية التي يستمد منها منظومته المعرفية، مما فسح المجال أمام تعدد وتنوع تعريف المعارضة، فنظر إليها البعض من قناة معناها اللغوي ووضع تحت يافطتها كل من عارض أو اعترض على الواقع القائم، دون النظر إلى محتوى هذه المعارضة أو بنيتها، إلى حد أنه لصق صفة « معارضة » على تلك الجماعات البشرية التي تنأى بنفسها عن أنماط التكيف مع المجتمع وتأنف عن المشاركة في أنشطته المختلفة…

في حين رفض آخرون تحويل هذا المصطلح إلى عباءة فضفاضة ينزوي تحتها كل من هب ودب، واعتمدوا مفهوماً يقتصر على القوى التي تحمل مشروعاً جذرياً لقلب المجتمع وبناء نموذجها البديل على أنقاضه، ودون هذا العمق، فهم لا يرون معارضة ولا هم يحزنون…

وبين هذا وذاك نهض رأي ثالث يرفض تعبير « المعارضة بشكل عام » ويؤكد على ضرورة قرنها بصفة تنسجم مع حدود ومحتوى البرنامج السياسي وأشكال النضال الذين على أساسهما تعارض ماهو قائم، فهناك معارضة وطنية، وأخرى قومية، أو ليبرالية، أو شيوعية، أو إسلامية. ومنها السري، أو السلمي، أو الجذري، أو الإصلاحي، وهكذا…

ولئن يصر البعض على اعتبار هذا التعريف هو الأقدر على فهم واقع المعارضة السياسية في تونس وفرزها وتصنيفها، انطلاقا من قدم نشأتها أو من رصيدها « النضالي »، إلا أن الناظر في واقع الأحزاب السياسية التي تتخندق في صف المعارضة، يجد أن تمايزها عن السلطة وأحزابها في ظل اللعبة الديمقراطية هو تمايز شكلي ليس غير، بل إن التماهي مع السلطة أصبح جزءً من الدور الذي تلعبه المعارضة في أغلب الأحيان، ما يجعل كل هذه الاختلافات في تعريف المعارضة، مجرد اختلافات نظرية، أما عمليّا، فإن واقع تطبيق النظام الرأسمالي والاحتكام إلى قواعد اللعبة الديمقراطية يحتم على جميع المعارضين التواطؤ مع السلطة في تكريس نفس هذا النظام وإطالة أنفاسه، حيث تصبح المعارضة أقوى كلما امتلكت القدرة على تعويض رموز السلطة القائمة في الحكم وإدارة البلاد بالوكالة عن الجهة الخارجية النافذة والمتحكمة في نتائج الصراع. فإلى أي مدى يصح الحديث عن وجود معارضة حقيقية في تونس؟ وهل صار الدور الأساسي للمعارضة هو تثبيت النظام القائم وبالتالي تبادل الأدوار مع السلطة؟

المعارضة والسلطة في تونس: تبادل للأدوار

لا يمكننا الحديث عن المعارضة السياسية في تونس دون التطرق إلى الحديث عن السلطة، الوجه الآخر من هذه الثنائية.فكيف نستطيع فهم واقع المعارضة وما آلت إليه، دون فهم دور السلطة وطبيعة المناخ الذي فرضته، طيلة عقود، على الحياة السياسية في تونس؟

قد لا تتساوى قراءة المعارضة السياسية في ظل حكم ليبرالي مع مثيلتها في ظل الأنظمة الشمولية، مهما تكن درجة التشابه كبيرة في مواقف وبرامج هاتين المعارضتين. ذلك أن الطابع الشمولي للسلطة في تونس، وسيطرتها على مختلف تفاصيل الحياة، ورفضها القاطع لوجود أي مستوى من الاعتراض على سياساتها تحت طائلة الاعتقال والسجن المديد باستثناء المعارضة الصورية، عكس نفسه بقوة على واقع وإمكانيات مختلف فصائل المعارضة التونسية، لنجدها ضعيفة مفككة، تطل برأسها، كلما ارتخت قبضة النظام، وترجع القهقرى ما إن تعود الأمور إلى حالها، فيلجأ بعضها إلى سراديب العمل السري حفاظاً على امكاناته المتواضعة في طرح ونشر مواقفه وآرائه السياسية وما يترتب على ذلك من نموّبطيء تحت الأرض. ويختار بعضها الآخر سياسة المهادنة أوالمناورة، في بناء خطاب نقدي خجول، يقيه شر القمع العاري والصريح، ليتحول إلى مجرد ديكور للسلطة، تتجمل به وتستمد منه شرعية بقائها.

إلا أن الأمور أخذت منحى مختلف منذ سنوات بعد أن ولّد تطبيق هذا النظام الفاسد على أهل تونس لعقود انفجارا ثوريا شعبيا، جعل الغرب يعيد ترتيب أوراقه في هذا البلد ويغير أساليب مكره بشكل اضطراري حتى لا تنفلت الأمور من بين يديه، في حين يفسر أنصار الديمقراطية هذا التغير في التعامل مع الواقع التونسي بأن ظاهرة العولمة، وخاصة ما يسمى « العولمة السياسية » والحضور القوي للفكر الليبرالي ومبادىء الديمقراطية وحقوق الإنسان في تقويم الأنظمة السياسية ومعايرة شرعيتها، مثلت جميعها أسبابا مباشرة ترتب عنها حملات واسعة جرت خلال العقد الأخير من أجل نصرة الحرية وحقوق الإنسان،فطال ذلك معظم البلدان ذات النهج الشمولي ومنها تونس، جنباً إلى جنب مع إشهار الاشتراطات السياسية المتعلقة بالحريات في مشروع الشراكة الأوربية ـ التونسية على سبيل المثال.

ومع أن هذا الرأي، يقوّضه واقع الدعم الغربي للأنظمة الشمولية في سوريا ومصر والسودان وغيرها، إلا أن المعارضة الديمقراطية تغمض عينيها عن رؤية حجم النفاق السياسي الذي يمارسه الغرب في التعامل مع أنظمة المنطقة، فلا تدرك أن يافطة الديمقراطية ولواء حقوق الإنسان، ليست سوى شعارات براقة يتخفى وراءها الغرب من أجل التدخل المباشر في بلاد الإسلام، حيث يشرف على وضع قواعد الحكم ومشاريع الدساتير كما يشرف على تنظيم الانتخابات « الديمقراطية » وإلا فهو من يشرف أيضا على وضع القواعد العسكرية ودعم الانقلابات المسلحة ومجازر الإبادة الشعبية، وكله طبعا من أجل فرض الديمقراطية في بلادنا.

هذه الغفلة السياسية التي تحجب عن المعارضة التونسية رؤية ازدواجية المعايير لدى الغرب وتتناسى دعم الاستعمار للنظام في تونس في عهدي بورقيبة وبن علي، تجعل من رموز المعارضة مجرد أدوات جديدة لإنقاذ هذا النظام المتهاوي وتثبيت أركانه ومؤسساته، بل تجعلهم يتنافسون من أجل ذلك، فتغيب كل تلك الاختلافات الأيديولوجية حين يصبح الهدف هو الانتقال من المعارضة إلى السلطة، بل تذوب كل المرجعيات الفكرية وتنصهر في بوتقة الفكر الرأسمالي، وتختفي بقدرة قادر كل الحساسيات السياسية، حتى لا نكاد نفرق بين ليبرالي وشيوعي وإسلامي، ثم يُرفع لأبناء هذا الشعب شعار مخادع مخاتل، هو شعار الوحدة الوطنية، لإيهام الناس بأن توافق هذه القوى « الوطنية » على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية هو من أجل الوطن.

أشكال جديدة في الخداع لا في الحكم

بالأمس القريب، كانت هذه المعارضة تحتفي مع السلطة بدستور التوافق الديمقراطي، وزعم كلى الطرفان بأن المتغيرات العالمية المرحبة بالنموذج التونسي، جاءت لتعالج أزمة الشكل الشمولي الأحادي في الحكم والتي تجلت بعجزه عن الاستمرار في السيادة بذات الطرائق القديمة، فأوهموا الشعب طيلة عشر سنوات بأنه تمت صياغة أشكال جديدة للحكم في علاقته مع المجتمع والدولة على حد سواء.

واليوم، في ظل تفرد الرئيس بالحكم، انتقلت سلطة الأمس إلى المعارضة، وعادت تناكف السلطة القائمة في البلاد على نموذج الحكم، وتعارض شكله الشمولي الأحادي، بل انضم إلى هذه المعارضة الجديدة (التي كانت في السلطة) جزء من معارضة الأمس والتي كانت تقوم بدورها العدائي على أحسن وجه، في حين يصر الرئيس الذي يحتكر كل السلطات على أنه يسير في طريق تكريس أشكال جديدة للحكم، غير تلك الأشكال التقليدية التي كانت سائدة طيلة العقود الماضية…

وبين خداع السلطة وخداع المعارضة، يجد الشعب نفسه أمام أشكال جديدة في الخداع، مقابل بقاء نفس النظام جاثما فوق صدره، دون وجود أي أشكال أو طرق أو آليات في الحكم، بل هو نفس النظام القديم يجدد أنفاسه، ويغير جلده في كل مرّة بوجوه جديدة، يناط بها دور تثبت أركان نفس النظام الجمهوري العلماني الفاسد بوجهه الرئاسي أو البرلماني، أما الاختلاف بين السلطة والمعارضة فهو لا يتجاوز أمورا شكلية في طريقة تقديم الخدمات للمسؤولين الكبار، وفي جهة الولاء للأجنبي، وأكبر دليل على ذلك، هو استنجاد جميعهم بالسيد الغربي من أجل حكم بلدهم وتركيز الديمقراطية في بلدانهم، وهذا كاف لمحاسبتهم جميعا على أساس الإسلام، إلا أن الغرب مصرّ على استعمالهم جميعا واختيار أقدرهم على تطبيق الرأسمالية وإقصاء الإسلام من الحكم، من أجل تأبيد وضعية الصراعات الشكلية الحادة، في الوقت الذي يتنافس فيه جميعهم على تطبيق نفس النظام.

وحتى لا يكون هذا الكلام نظريا، يكفي استحضار أهم الأمثلة التي تشترك فيها المعارضة الحالية مع السلطة القائمة في البلاد، ليتأكد الجميع أنه لا فرق بين حكم هذا أو ذاك، مادامت السياسات المطبقة على الناس واحدة. فهل تعارض المعارضة الحالية حقيقةً،تغيير النظام من برلماني إلى رئاسي؟ وهل ستعارض هذا التوجه لو كانت في الحكم وطلب منها الغرب القيام بذلك؟ وهل تعارض تنقيح القانون الانتخابي وهي من كانت تدعو إلى ذلك بالأمس؟ وهل ستعارض استعادة القبضة الأمنية وهي من كانت حريصة على ذلك قبيل 25 جويلية؟ وهل ستعارض إملاءات صندوق النقد الدولي وتوقف سياسة التداين؟ وهل ستعارضالتفويت للكافر المستعمر في ثروات البلاد أم ستعارض الإبقاء على الاتفاقيات الخيانية أم ستعارض محاربة التطرف وحماية الحدود خدمة للغرب؟

إن المعارضة الديمقراطية، هي الباب الأول للوصول إلى الحكم الديمقراطي، وإن الشرط الأساسي الذي يوضع أمام كل الوسط السياسي سلطة ومعارضة، هو ممارسة العمل السياسي تحت سقف الديمقراطية، وأن يحمل دعوتها بين الناس، وأن يعارض قيام حكم الإسلام متمثلا في دولته، دولة الخلافة الراشدة الموعودة. ولذلك، لا يهنأ الغرب، إلا حين ينصب علينا ديكتاتورا، يوحّد جهود المعارضة في الدعوة إلى استئناف الحياة الديمقراطية (كما قال زعيمهم)، أما أبناء الشعب، فهم كالسن في الدولاب، تكاد اللعبة الديمقراطية والإجراءات الرأسمالية تطحنهم طحنا وتمحقهم محقا، مادامت الخلافة غائبة عن الوجود، مع أنها الشكل الشرعي للحكم لدى المسلمين. ولذلك، فالمعارضة الشرعية، هي معارضة الحكم بغير ما أنزل الله، أيا كان شكله، أما المعارضة من داخل هذه الأنظمة، مهما على صوتها، فهي معارضة وهمية تبقي وضعية إقصاء الإسلام من الحكم.

المهندس وسام الأطرش

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )