مسار “التصحيح”: سطحيّة الطّرح وعمق الأزمة

مسار “التصحيح”: سطحيّة الطّرح وعمق الأزمة

مقدمة

يبدو أن الرئيس قيس سعيد، لم يستوعب الدرس، أو ربما هو آخر من سيستوعب الدرس، مادام متماديا فيما اعتبره مسارا تصحيحيا لا عودة فيه إلى الوراء. 

ربما ظن فريق الرئيس قيس سعيد، أن الحصول على ضوء أخضر فرنسي واستغلال حالة الاحتقان الشعبي السائد، كان كافيا لترجيح الكفة لصالح دعاة تصحيح المسار وقادة مسار « التصحيح »… ولكن الواقع يثبت مرّة أخرى، أنّ القول الفصل كان ولا يزال للدولة العميقة، بأدواتها وأجهزتها المتحكمة في خيوط اللعبة فضلا عن ارتباطاتها الدولية، لا فيمن يصرخ أكثر أو يتودد لشعبه أكثر…

علّمتنا التجارب أن السياسة أفعال لا أقوال، وأن من يطلق الوعود ولا يحققها على أرض الواقع يخسر رصيده بسرعة. حصل هذا لكامل الوسط السياسي قبل 25 جويلية، وكان سببا في ابتهاج جزء لا بأس به من الشعب بقرار تجميد البرلمان وإنهاء حالة التهريج السياسي السائدة، بل كان سببا في تنحي قيادات حزبية عن المشهد السياسي مدة من الزمن، وإحداث رجّة نفسية للعديد منهم، ولكن الإعلان عن مسارات بالحجم الذي يقضي على الفساد المتغلغل ويحاسب المتسببين في نهب أموال الشعب وفي تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والتحركات الاجتماعية، وينهي ما اعتبره الرئيس خطرا داهما بل جاثما على البلد، يفترض المرور إلى الإجراءات العملية الكفيلة بإظهار الحد الأدنى من المسؤولية ومن القدرة على الحسم وعلى التعاطي المدروس مع كبرى القضايا على غرار أزمة الديون وغلاء الأسعار وملف الإرهاب وملف التخابر مع الأجانب وملف الثروات الطبيعية (وخاصة الغاز الطبيعي والفسفات) وقضايا الفساد المالي والتمويل الأجنبي للأحزاب والجمعيات، فضلا عن جدارة الفعل والإنجاز السياسي ووجاهة الخطة الاتصالية…

أما الفشل في تحقيق الوعود من قبل الرئيس، فهو لا يجعله يخسر رصيده ويخرج من الباب الصغير فحسب، بل سيكون قد أعطى أكبر هديّة للوسط السياسي الذي رفض مجرد الحوار معه، ليُعيد من اعتبرهم بالأمس فاشلين وخونة إلى تصدر المشهد من جديد وإلى إدارة شؤون البلاد، بل يعود « الخطر الجاثم » والفساد الدائم بحسب رؤية الرئيس السطحية ليبسط سيطرته التامة على مفاصل الدولة، وعلى كل شاردة وواردة في البلاد، ليدخل الشعب لا سمح الله في مرحلة من اليأس من القدرة على التغيير…

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما هي مآلات الثورة التي زعم قيس سعيد أنه على موعد مع التاريخ لإنقاذها؟ وهل من مسار ثالث قادر على انتشال البلاد من هذا الصراع السياسي المحتدم وتخليصها من الأزمات المتعاقبة، أم أن الشعب التونسي سيظل مخيّرا بين السيء والأسوأ؟

قراءة في عمق الأزمة السياسية

إنه لمن السذاجة والسطحية حصر أزمة الانحدار السياسي والاقتصادي التي تضاعف حجمه بعد الثورة، في أشخاص الحاكمين، أو في مواد أو في هيئات دستورية. وإن المستوى المتدني الذي وصلت إليه بلادنا اليوم في جميع المجالات تقريبا، يقتضي من الصادقين الغيورين على بلدهم ومن الجادين في إحداث عملية التغيير، دراسة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الأزمة دراسة عميقة مُجدية، بعيدا عن العواطف والمشاعر، بحيث نعطي التوصيف الصحيح والدقيق للمشكل، حتى ندرك العلاج الجذري والمناسب.

أما مجرد التذمر من أعراض الأزمة بصوت عال، وإطلاق وعود وهميّة بحلّها، فذلك لا يغير من واقعها شيئا، بل يصبح بدوره جزء من المشكل لا من الحلّ. وهذا أشبه بالدوان في حلقة مفرغة، أو في دوّامة من الأزمات، لا يُعرف أولها من آخرها. 

إن الجدل الحاصل حول النظام السياسي في تونس وما تبعه من انقسام حاد بين خبراء القانون، وتخيير الشعب بين نظام رئاسي أو برلماني، والحديث عن إمكانية تعليق الدستور الحالي، أو تعديله، أو العودة إلى دستور سنة 1959، أو إجراء استفتاء على مواد في الدستور، أو غيرها من الاقتراحات… إنّ هذا كلّه يصب في سياق واحد، هو سياق الهروب إلى الأمام والإصرار على عدم الاعتراف بطبيعة الأزمة وبحقيقة الأزمة، من كونها أزمة نظام لم يعد قادرا على رعاية شؤون الناس، ومن كون الفساد تحميه ترسانة من القوانين الجائرة. 

إن تذمر الشعب التونسي من النظام الجمهوري العلماني ليس بالأمر الجديد، بل حصل منذ عهد بورقيبة، وتلقف الغرب ذلك واحتواه بآلياته في غفلة من الشعب، إلى أن عجز بورقيبة عن التمادي في سياسة الاحتواء، فكان خلفُه بن علي بديلا عنه في إنقاذ النظام من السقوط والتهاوي وبيع الوهم للناس، فزعم أنه المنقذ وأنه قائد التحول المبارك، وكتبت الصحف الرسمية في التسعينات أنه من سيحول تونس إلى سنغافورة…

إلى أن استفاق الشعب بعد عقدين من الزمن على واقع الظلم والاضطهاد والفقر المدقع والتخلف الفكري والحضاري، بل على واقع نصف قرن من وهم الاستقلال ومن مزاعم الدولة الحديثة، فثاروا ضد المنظومة الرأسمالية في تونس، دون أن يكون للشعب بديل واضح وخط سير جاهز وقيادة معلومة. بل كان سيرا في اتجاه دفع الظلم بما يمكن الناس من إيجاد أجواء لاستجلاب العدل والبحث عمن يقودهم في مسار التحرر بما يعيد إليهم إرادتهم المسلوبة وسيادة البلد المفقودة وثرواته المنهوبة. 

وهكذا، ظل الشعب بفعل توجيه ماكينات الإعلام المضلل، يعلق آماله في كل مرّة على جهة أو قيادة، يظن بادئ الأمر أنها ستخلصه من هذا الواقع المرير، ثم يكتشف بعد مدّة أنها لم توضع أمامه كخيار إلا من أجل الحيلولة بينه وبين التحرر من التعبية للاستعمار. ذلك أن الغرب الرأسمالي قد أحكم قبضته على البلاد منذ تقسيم العالم الإسلامي، بحيث ربط سياسات البلد بما تمليه الدوائر الاستعمارية، وربط اقتصاديات البلد بما ترسمه مؤسسات النهب الدولي، واشترط الولاء له ولمنظومته الديمقراطية من أجل قبوله في اللعبة السياسية والتسويق لوجوده إعلاميا، بحيث تم احتكار السياسة ومفهومها، وصارت حكرا على المضبوعين بالثقافة الغربية وبفكرة الديمقراطية أساسا، بحيث يجرّم وينبذ كل من يرفض الدخول إلى هذا المستنقع الديمقراطي. 

وهكذا يمكن تلخيص الأزمة في أمرين لا ثالث لهما:

الأوّل: هيمنة المستعمر الأجنبي وخضوع كامل الطبقة السياسية له، بحيث لا وجود لتغيير ولحلول إلا من داخل المنظومة الديمقراطية الفاسدة. 

الثاني: الإصرار على إقصاء الإسلام من الحكم والتشريع وتطبيق أنظمة الغرب المستعمر.

هذه خلاصة المشهد، وهذا هو جوهر الأزمة، وإن تعددت الأعراض، وتعددت أشكال الصراع الشكلي والاختلاف الجزئي، حول آليات تطبيق هذه المنظومة الفاسدة، ولذلك فإن كل من يقفز فوق هذه الحقيقة العينيّة، ويتنكر لقدرة الإسلام على معالجة مشاكل الناس، فهو مساهم في تعميق الأزمة وإطالة عمرها، ومسؤول أمام الله على كل ما يلحق بأبناء هذا البلد من مصائب، حتى وإن زعم أنه قائد ملهم أو زعيم منقذ…

تونس أمام مسار ثالث، ممكن التحقيق…

إن الواضح اليوم، أن الطبقة السياسية برمتها قد وضعت البلاد في مفترق طرق، وأن خضوع جل الوسط السياسي لبريطانيا واستناد الرئيس قيس سعيد إلى فرنسا، قد عمّق الأزمة وفرض مزيدا من التدخل الأجنبي بدل إنهاء نفوذ الاستعمار، كما خلق مزيدا من المناكفات السياسية في الداخل، ستنتهي على الأرجح بانتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة مطلع العام القادم، من أجل إعادة ترتيب الأوراق. وعليه فإن الخروج من دوّامة التبعيّة لن يكون في ظل نفس هذا النظام الرأسمالي المفروض علينا جميعا بغض النظر عن شخص من يحكم، فهو الخطر الحقيقي الجاثم على صدورنا والذي يتهدد وجودنا منذ غُيّب سلطان الإسلام واستهدف كيان الأمّة، وهو العدو الحقيقي الذي يجب أن تتضافر كل الجهود في الداخل لإزاحته وإنهاء وجوده. 

إن إدارة شؤون البلاد وفق رؤية ذاتية مستقلة عن إرادة الغرب وعن دوائره المتربصة بالأمة في كل مكان، هو أمر مستحيل في ظل النظام الحالي، ظل الاستعمار في بلادنا، وإن التفكير الجدي في الاستقلال واسترجاع سيادة البلد، يبدئ من التخلي عن توجيه السفارات الأجنبية، وعن ممارسة وهم الحكم في دولة صارت في حكم العدم، حيث صارت السلطة غنيمة ووسيلة للثأر، وصارت أجهزة الدولة محل ترذيل من قبل من يفترض أنهم رجالات دولة، إلى أن ازدحم القاع بالرعاع وسقط المتاع، فاجتمعت المُنخنقة والمَوقوذة والمُتردية والنَّطيحة حول هذا النظام باعتراف رأس النظام نفسه. فكيف ينتظر عاقل أن يخرج الحل من مشكاة النظام الجمهوري الفاسد الذي حكم به بورقيبة وبن علي امتثالا لأوامر الغرب، ويحكم به ساسة اليوم؟ ومتى يستقيم الظل والعود أعوج؟ ثم كيف للرئيس أن ينكر على البقية وضع دستور على المقاس، ويطالب بدوره بدستور على مقاسه بل على مقاس أسياده؟ 

إن انسداد الأفق وفقدان الأمل في التغيير لدى فئة من الشعب، مرده أمران:

أولا: عقم النظام الرأسمالي وعجزه الواضح على تقديم حلول جذرية، مع استنساخه لحلول قديمة عقيمة، لا تزيد الوضع إلا فسادا وإفسادا.

ثانيا: أن كل محاولات التغيير، حتى تلك التي تمسحت بالإسلام، كانت تحت سقف النظام الرأسمالي الديمقراطي، ووفق قواعده في اللعب، ولذلك فإن التغيير من داخله أمر مستحيل كما أثبته الواقع في عديد الأقطار، والأصل أن يكون في ذلك عبرة لكل معتبر، لا دافعا لمزيد إفراغ المشروع الإسلامي من محتواه. 

إن حزب التحرير في تونس، قد عاهد الله ألا يترك البلاد تنهار على أيدي العملاء والضعفاء، وإنه قد حذر أهل البلد من هذا المسار منذ بداياته، حيث كانت له وقفة مشهودة أمام المجلس التأسيسي رفضا لدستور العبث السياسي، وكانت له أعمال ووقفات عديدة تحذر الوسط السياسي من خطورة الارتهان إلى الأجنبي، ومع ذلك فها نحن اليوم ندفع ضريبة ارتماء حكامنا في أحضان الغرب ومخالفتهم للشرع بإقرار دستور وضعي لم ينبثق عن الكتاب والسنة وما أرشدا إليه. وعليه، فإن القيادة التي ظل يبحث عنها هذا الشعب موجودة، تعيش بين أحضانه، وإن الضامن للتطبيق ولحسن التطبيق وللمحاسبة، هي أحكام الإسلام نفسها، التي تُلزم الحاكم والمحكوم بطاعة الله، فيطبق القانون من جهتين: من جهة الدولة استجابة لأمر الله، ومن جهة وازع تقوى الله في الأفراد، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. 

هذا مسار ثالث ممكن التحقيق، واللحظة اليوم صارت فارقة، وهي أنسب أكثر من أي وقت مضى لقلب الطاولة على رؤوس الجميع، فنحرر أنفسنا وبلدنا من النفوذ الغربي ونعتصم بإسلامنا العظيم ببناء دولة قويّة حقيقيّة كالدولة التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة أوّل مرّة ويكون ذلك بتنصيب خليفة يحكم بشرع الله ويقودنا للتحرّر النهائي. قال تعالى: « إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ».

المهندس وسام الأطرش

CATEGORIES
TAGS
Share This