14 جانفي: تاريخ لا يمكن طمسه من قبل من تنكر للثورة

14 جانفي: تاريخ لا يمكن طمسه من قبل من تنكر للثورة

الثورة، رغبة في الاحتراق والاندثار أم في إسقاط أنظمة الاستعمار؟

ليست هي المرّة الأولى التي تغيب فيها مظاهر الاحتفال الرسمي بذكرى 14 جانفي، تاريخ اندلاع شرارة الثورة في تونس، والتي كانت سببا في تبعثر أوراق الغرب وتداعي أنظمة المنطقة وسقوط رؤوسها ورموزها كما تتساقط أحجار الدومينو.

فالعام الماضي، شهد بدوره غيابا رسميّا لرئيس الدولة الذي امتنع عن الظهور وعن إلقاء كلمة يتوجه بها إلى الشعب في هذه المناسبة التي أريد لها النسيان على ما يبدو. في المقابل، سجّل المقيم العام البريطاني « إدوارد أوكدن » حضوره في شارع الثورة وأمام مبنى وزارة الداخلية تزامنا مع حجر صحي شامل بدعوى كورونا، لم يُفهم حينها إلا في سياق الحجر السياسي الذي يفرض على الشعب إقامة جبرية تمنعه من التعبير عن مواقفه ومشاعره بشكل جماهيري.

في ذلك اليوم، انخرط كامل الوسط السياسي في مسار تكبيل الحراك الشعبي واحتكار الثورة تحت غطاء مجابهة كورونا، ولم تنتبه هذه الأحزاب المتنازعة على السلطة إلى أن هذه الورقة قد تستغل ضدها في وقت لاحق، فيُسلّط عليها ما ارتضته بنفسها لأبناء هذا الشعب من قرارات سياسية جائرة تبررها فتاوى تحت الطلب من قبل « لجنة علميّة » تعدّدت حولها نقاط الاستفهام.

هذا العام، أريد فيه لتاريخ 14 جانفي أن يكون استثنائيا، خلافا لكل الأعوام السابقة، ضمن مسار الإجراءات الاستثنائية التي أطلقها الرئيس قيس سعيد منذ 25 جويلية 2021، حيث استُبِق بأمر رئاسي يعتبر يوم 17 ديسمبر من كل سنة يوم عيد الثورة بدلا عن 14 جانفي، وهو أمر في ظاهره انتصار للثورة التي انطلقت شرارتها من سيدي بوزيد في 17 ديسمبر، ولكنه يخفي حقيقة حصر الثورة واختزالها في تاريخ حرق البوعزيزي لنفسهبل يخفي حقيقة الحرص على إلغاء تاريخ 14 جانفيمن الذاكرة الجماعية والذي حقق فيه أبناء الشعب ذلك المنجز التاريخي ضمن انفجار ثوري غير مسبوق وسيول بشرية طالبت بإسقاط النظام واستطاعت عبر جحافل المنتفضين تطويق العاصمة وشلّ القبضة الأمنية لنظام الطاغية بن علي بشكل مفاجئ تجاوز كل التوقعات، ما أجبر أسياده عن التخلي عنه بين عشية وضحاها.

وكأن الأمر الرئاسي قد اختار (نيابة عن الأسياد والمؤولين الكبار) تاريخ الاحتراق والاندثار على تاريخ الانفجار في وجه نظام الاستعمار. بعبارة أخرى، هو تكريس لحلول العاجزين المستسلمين لا حلول الفاعلين القادرين، وهي نظرة تشفي غليل الكفار المستعمرين. أكبر دليل على عدم اكتراث الرئيس نفسه، بالحُرقة التي يعيشها أبناء بلده، وعلى أنه يعيش في كوكب آخر غير الذي نعيشه، هو تلك الكلمة التي ألقاها من شارع الثورة فوق رماد جثة متفحمة، لشخص أحرق النار في نفسه، وراح يتهجم فيها على خصومه غير عابئ بما حدث قبل وصوله.

المسار « التصحيحي »: مسمار أخير دُقّ في نعش الثورة

نعم، لقد أريد لملف الثورة أن يُطوى إلى الأبد، وألا يُذكر إلا من باب السخرية والتندر، وأن يُمحى من ذاكرة الشعب فيذهب في طيّ النسيان دون أن تستلهم منه الأجيال القادمة ذلك النفس الثوري وتلك الرغبة الحقيقية في التغيير الجذري التي ألهمت شعوب الأمة الإسلامية وحركت فيهم شعور الانتماء على أمل الوحدة الحقيقية التي تلغي حدود الاستعمار.

في هذا الإطار، التقت رغبة الكافر المستعمر مع من باعوا ذمتهم وضمائرهم، وسارعوا بنهم شديد نحو استعادة القبضة الأمنية قصد تركيع الشعب من جديد، وهذا كلّه تحت شعار: « الشعب يُريد ». ذلك الشعار الخادع المنقوص، الذي يضع الشعب كفاعل لإيهامه بأنه صاحب الفعل والقرار، ولكنه يخفي المفعول به، ضمن الجملة الفعلية « يريدُ إسقاط النظام » التي جاءت هنا كخبر عندما اختار « الشعب » بنفسه أن يكون هو المبتدأ.

طبعا هؤلاء استطاعوا استغلال أجواء الاحتقان الموجودة ضد كامل النخبة السياسية التي حكمت في هذه العشرية، وأن يجعلوا الناس تصب جام غضبها في الأشخاص دون النظام العميل، ولا في الاستعمار المتربص الذي يسنده ويمنعه من السقوط والانهيار الكلي، وهو عينُ ما يفعله حكام كل مرحلة خدمة لأسيادهم قبل أن يلقى بهم في مزبلة التاريخ، والشواهد على ذلك من عصرنا أكثر من أن تحصى أو تعد.

إن مسار الركوب على الثورة والتلاعب بها وحرفها عن مسارها الطبيعي ومحاولة إخمادها وإطفاء جذوتها وعقاب الشعب على خيار الثورة، لم يبدأ اليوم، وليس وليد اللحظة، بل سبقته محاولات عديدة ومتكررة، يُشرف عليها الغرب ودوائره الاستعمارية إشرافا مباشرا، لما في ذلك من أهميّة بالغة في صراع النظام الرأسمالي المتهاوي عالميا مع الإسلام كنظام سياسي بديل يبحث لنفسه عن أرضية ونقطة للارتكاز يستطيع من خلالها افتكاك زمام المبادرة، فتعود الأمة للقيادة والرّيادة وللعب دورها الطبيعي بين سائر الشعوب والأمم، وقد خاض أهل الشام في هذا الصدد ملاحم من الصراع الفكري والكفاح السياسي تشيب لها الولدان وتدرس للأجيال القادمة.

ولعل من بين أهم هذه المحاولات، هو مراهنته على ورقة الإسلام المعتدل وتشريك دعاته في الحكم الديمقراطي بشروطه وإيهامهم بأن التغيير لا يتم إلا عبر الانتخابات الديمقراطية حصرا وقسرا، وذلك من أجل إفراغ الإسلام من مضمونه، ثم العمل على سحب البساط من تحت أقدام هؤلاء بعد نسب كل الفشل والعجز الناتج عن تطبيق النظام الرأسمالي إليهم.

أما المحاولة الأخيرة، فهي المراهنة على ورقة « المسار التصحيحي » التي فتحت الباب على مصراعيه للاستعمار للتدخل في شؤون البلد، وذلك بتوظيف مكتسبات الشعب وطاقات الشعب وحماة الشعب من أمن وجيش ضد مصلحة الشعب وضد ما تمليه عليه عقيدته وما تفرضه أحكام دينه، وهذه جولة من جولات الحرب الصليبية على الإسلام لن يدخر الغرب جهدا في خوضها إلى النهاية، دفاعا عن حضارته، بل دفاعا عن وجوده.

الاستعمار سبب الدمار، ولا حل إلا باقتلاعه من جذوره

بعيدا عن حصر المعركة مع أدوات الاستعمار وخوض الصراعات الدونكيشوتية مع الدمى المتحركة، فإن ما يجب أن يعيه المؤمنون بضرورة استكمال الثورة إلى حين التحرر النهائي من قبضة الاستعمار، هو أن المعركة الحقيقية تتجاوز فعلا أشباه الحكام ممن لا يملكون أمرهم، لأنهم مجرد خدم وعبيد يُنتدبون من قبل أسيادهم في هذه الأنظمة الوظيفية من أجل القيام بأدوار معينة ومحدودة، ثم تنتهي صلوحيتهم بانتهاء مهامهم مباشرة فيُرمى بهم في مزبلة التاريخ. وإنما المعركة الحقيقية والفعلية هي مع الاستعمار الجاثم فوق صدورنا.

هذه الجولة من المعركة الوجودية التي يخوضها الغرب اليوم، تلخصها مقولة للجنرال الأمريكي « راي اوديرنو » (رئيس أركان الجيش الأميركي السابق، شارك في حرب الخليج وحرب العراق) أثناء محاضرة له ألقاها في المعهد الملكي البريطاني « تشاتهام هاوس » سنة 2012، حيث قال فيها:

دعونا ننظر حول العالم، وما نراه في العالم. وجزء من هذا العالم هو ما تعلمت، وأعتقد أن ما تعلمناه جميعاً من منظور عسكري على مدى السنوات الخمس أو الست الماضية هو هذا الربط، هذه القدرة العالمية على الاتصال التي تمكن المعلومات من الانتقال الفوري في جميع أنحاء العالم، قد أثرت على الأمن وستؤثر على كيفية تفكيرنا حول كيفية وجوب توفير الأمن في المستقبل.

وقد رأينا أن هذا قد لعب دوراً في الربيع العربي، سواء كان ذلك في ليبيا، أو في مصر، أو في تونس، وترونه لا زال يلعب قليلا،اليوم، في سوريا.

عندما نناقش هذا، فإننا سوف نقول لكم أن الربيع العربي لم ينته بعد. أعني، انها مجرد بداية.
لأن ما فعلوه هو أنهم كانوا قادرين فعلا- في مصر، في ليبيا، في تونس مثلا – على التخلص من الحكومة القديمة، ولكنهم لا زالوا في عملية تشكيل حكوماتهم الجديدة. نحن لا نعرف كيف ستكون هذه الحكومات.
نحن لا نعرف، إذا ما تم تشكيل هذه الحكومات، ما الأثر الذي سيكون لها على منطقة الشرق الأوسط والأمن داخل الشرق الأوسط.

هكذا إذن، ينظرون إلى خطورة سرعة انتشار المعلومة على أمنهم القومي، وهذا المنطق يفرض أن تخضع الأنظمة القائمة اليوم لأوامر الاستعمار، بالشكل الذي يوفر الأمن لا لشعوب المنطقة، وإنما لدول الغرب التي تخشى انفجار هذه المنطقة في وجهها، فيُحسم الصراع لصالح الإسلام وبديله الحضاري.

في هذا الإطار، وتزامنا مع حديث سابق للرئيس قيس سعيد حول السيادة ورفض كل أشكال التدخل الأجنبي، شاهدنا جميعا كيف استقبل الوزير المكلف بتسيير وزارة الداخلية رضا غرسلاوي المقيم العام الفرنسي، « أندري باران » ليكون أول سفير يقتحم مقر وزارة الداخلية منذ الإعلان عن بداية المسار « التصحيحي » الذي أعلن عنه الرئيس قيس سعيد في 25 جويلية. ثم لا يلبث إلا أن يطل برأسه مجددا عشية 14 جانفي ليؤكد دعمه مجددا لهذا المسار، حتى في مفاوضات تونس مع صندوق النقد الدولي.

هذا السفير، هو مستشار الرئيس الفرنسي المتصهيـن « ساركوزي » للشؤون الإفريقية، كما أن علاقة عائلة « باران » (التي ينحدر منها السفير الحالي) بالقارة الإفريقية تكتسي خصوصية، فجدّه كان حاكمًا في الغابون زمن الاحتلال الفرنسي، فيما عمل والده مستشارًا للرئيس الإيفواري السابق فيليكس هوفويي بوانيي، ولذلك فإنه ينظر لتونس بوابة الشمال الإفريقي نظرة خاصة على ضوء ما تربى عليه في هذه العائلة ذات الثقافة الاستعمارية العريقة.

ختاما، فإن تحكم الاستعمار في تفاصيل الحياة السياسية في تونس، هي حقيقة ساطعة، كان حزب التحرير أول المحذرين من خطرها، ولذلك كان له في الذكرى الحادية عشرة للثورة النصيب الأكبر من النقد اللاذع والاستهداف المقصود من قبل أبواق الاستعمار وعملائه، لوقوفه في الصفوف الأمامية المتصدية لتآمر الدول الاستعمارية على أمة الإسلام.

وليس أدل على حقيقة إشراف القوى الاستعمارية على هندسة الحياة السياسية في البلد، بل على انخراطها في إعادة صياغة تاريخ الثورة، من تعليق الأميرال المتقاعد كمال العكروت، على المكالمات المسربة بين الرئيس المخلوع وعدد من المسؤولين السامين والشخصيات المتنفّذة والتي نشرت محتواها مؤخرا قناة الـBBC البريطانية.

حيث اعتبر الأميرال، في تدوينة على حسابه الرسمي بموقع الفيسبوك، أن هذه المكالمات المزعومة لم تضف أيّ جديد في علاقة بالرواية الخاصة بما جرى يوم 14 جانفي 2011، مشيرا في المقابل إلى أنّه لا يجب التوقّف عند القراءة الأولية لمحتوى المحادثات بل يجب القراءة بين السطور في علاقة بتوقيت نشرها، واختيار مقاطع بعينها.

وأشار العكروت إلى وجود علاقة للمخابرات البريطانية (MI6) بالتسريب، مؤكّدا أنّ من يعرف ميل المخابرات البريطانية إلى الإسلام السياسي يفهم جيّدا دواعي الإحسان والشفافية الفجئية للـBBC المملوكة للحكومة البريطانية.

المهندس وسام الأطرش

CATEGORIES
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )