صوّت مجلس نواب الشعب في 10/11/2018 على منح الثقة لقائمة الوزراء الجدد المعينين في حكومة يوسف الشاهد قبل أسبوع. وقد تم هذا التعديل الحكومي في أجواء نزاعات حول الصلاحيات بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد والرئيس الباجي قائد السبسي الذي أعلن عدم استشارته في التحوير، ووسط خلافات داخلية داخل حزب نداء تونس تميزت باستقالات متتالية في صفوف الأعضاء ونواب البرلمان وبدعوة مديره التنفيذي كافة وزراء الحكومة المعينين إلى الاختيار بين الاستقالة من الحكومة أو الاستقالة من الحزب، مع اتهامات للحكومة بأنها أصبحت حكومة النهضة بعد الإعلان عن انتهاء سياسة التوافق.

وللوقوف على حقيقة ما يجري بعيدا على المزايدات الإعلامية التي تتحكم فيها السلطة لا بد من إدراكأن المشهد السياسي في تونس يسير منذ انتخابات 2014 وفق ما يسمى « بسياسة التوافق » بين حركة النهضة وحزب نداء تونس، وهي سياسة مفروضة على الوسط السياسي تقوم على مشاركة حركة النهضة في الحكم، ومساندة نوابها في البرلمان لكل المبادرات التشريعية التي تقدمها الحكومة مقابل بضعة مناصب وزارية لا تعبر عن وزنها الانتخابي.

وقد كانت حركة النهضة طوال هذه الفترة ملتزمة بهذه السياسة وقد صادق نوابها في البرلمان على كل القوانين التي قدمتها الحكومة بما فيها تلك القوانين المرفوضة شعبيا كقانون العفو عن رجالات النظام السابق والذي سمي زورا بـ »قانون المصالحة »، والقوانين المفروضة من صندوق النقد الدولي كالنظام الأساسي الجديد للبنك المركزي، وقوانين المالية التي رفعت من قيمة الضرائب على الناس.

أما حزب نداء تونس فقد دخل منذ نهاية انتخابات 2014 في دوامة من الخلافات الداخلية والاستقالات الجماعية وبرزت ظاهرة السياحة الحزبية والبرلمانية وتكونت أحزاب جديدة من شقوقه وانقسمت كتلته البرلمانية وفقدت مركزها الأول كأقوى كتلة في البرلمان، وأصبحت هي الثانية بعد كتلة النهضة. وازدادت حدّة الخلافات داخل حزب النداء بعد تعيين يوسف الشاهد رئيسا للحكومة وبدء حملة لمقاومة (الفساد) بعد أن تبين أن أغلب المتورطين من صغار الفاسدين الذين شملتهم الحملة هم من نداء تونس وعلى علاقة بكبار المسئولين فيه، وهكذا بدأت ترتفع الأصوات المطالبة بإسقاط الحكومة من المدير التنفيذي لحزب نداء تونس والذي هو ابن السبسي. هذه الدعوات التقت مع دعوات « الاتحاد العام التونسي للشغل » لإقالة رئيس الحكومة نتيجة إصرار الشاهد على تنفيذ الشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي من تجميد الأجور ووقف الانتدابات في الوظيفة العمومية وفرض المزيد من الضرائب وإلغاء الدعم على المواد الأساسية.

ولكن وبالرغم من المشاكل الداخلية التي يعانيها الشاهد ودعوات إقالته من إدارة حزبه ومن اتحاد الشغل وأحزاب المعارضة إلا أن علاقاته الخارجية التي كونها بعد زيارته لأمريكا في 10 تموز/يوليو 2017 والتزامه بمكافحة (الإرهاب) والفساد وتوطيد العلاقة مع المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبعد زيارته لبروكسيل واستقباله في البرلمان الأوروبي في 24 نيسان/أبريل 2018 ولقائه بكبار المسئولين فيه وتقديمه وعوداً بإبرام اتفاق الشراكة الموسع والمعمق مع الاتحاد الأوروبي في 2019، كل هذا جلب له مساندة واضحة من سفراء الدول الغربية في تونس والذين أصبحوا يدعون صراحة إلى الإبقاء على يوسف الشاهد رئيسا للحكومة في المرحلة القادمة.

هذا الدعم الخارجي لحكومة يوسف الشاهد هو الذي قوّى موقفه أمام خصومه من حزبه ومن جماعة الرئاسة في قصر قرطاج، وهو الذي كان وراء دعم حركة النهضة له استجابة لرغبة أوروبية في إبقائه وليس بحجة البحث عن الاستقرار السياسي كما يزعمون. لذلك لم تنجح الضغوط التي مارسها الباجي قائد السبسي بإعلانه نهاية « سياسة التوافق » لجعل حركة النهضة تبتعد عن دعم الشاهد بعد أن شعر بضعفه السياسي أمام قوة الشاهد الصاعدة.

وهكذا فإن التغيير في المشهد السياسي في تونس ليس ناتجا عن نهاية سياسة التوافق بين حركة النهضة وحزب نداء تونس بل هو ناتج عن دعم أوروبي واضح ليوسف الشاهد ليتولى هو الاستمرار في « سياسة التوافق » بعيدا عن المشاكل والنزاعات الداخلية التي يعاني منها حزب نداء تونس والتي أصبحت تؤثر على سير العمل الحكومي.

ولأجل إتمام هذا المسار تكونت كتلة برلمانية جديدة في مجلس النواب لدعم يوسف الشاهد هي كتلة « الائتلاف الوطني » وهي مكونة من المستقيلين من حزب النداء وانضم إليها عدد آخر من النواب كي يضمن الشاهد استمراره في الحكم بعيدا عن حزبه نداء تونس. وهكذا تمكن يوسف الشاهد من نيل ثقة البرلمان للتعديل الوزاري الأخير رغم غياب نواب كتلة نداء تونس عن التصويت.

وهكذا فإن إعادة تشكيل المشهد السياسي في تونس تداخلت فيه عوامل داخلية في حزب نداء تونس الذي طغت عليه الخلافات الداخلية والانتهازية والفساد المفرط مع عوامل خارجية أهمها حرص الاتحاد الأوروبي وبريطانيا على إيجاد عملاء قادرين على رعاية مصالحه وتنفيذ أوامره، وقد سبق للسبسي في إحدى سقطاته الإعلامية أن ذكر بأنّ المسئول الكبير لامه على استفحال الخلافات داخل حزب نداء تونس ودعاه إلى حلها. لذلك فإن ما نشاهده من استقالات وتكوين كتل جديدة في البرلمان وما يصدر من مواقف من بعض الأحزاب بحجة الاستقرار السياسي ودرء الفتنة ليس سوى ترتيب وتوزيع أدوار يشرف عليه المسئول الكبير حسب رأيه ومصالح دولته الاستعمارية.

إن المسار الديمقراطي والعملية الانتخابية في تونس هي الوسيلة التي يعتمدها الغرب لفرض هيمنته الاستعمارية ومنع الأمة الإسلامية من التعبير عن تطلعاتها للعيش في نظام الإسلام وذلك عبر فرض حكام علمانيين وبعد ترويض الحركات الإسلامية التي تقبل باللعبة الديمقراطية لإخراجها من دائرة العمل الجاد للتغيير إلى فضاء الواقعية السياسية والتنازلات المذلة كما حصل مع حركة النهضة في تونس.

ولكن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله ولن يجني العملاء والمتنازلون إلا مزيدا من الفشل والخذلان وستظل جماهير الأمة مستمرة في نبذهم واحتقارهم حتى يُتوّج مسارها الثوري بتحرير الأمة من حبال المستعمر وإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة.

بقلم: الدكتور محمد مقيديش

رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )