حفظ الدّين مقدّم على حفظ النّفس

حفظ الدّين مقدّم على حفظ النّفس

الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

في حديث صحيح عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ…»، فقد شبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم النّاس بالأرض، ومن زرع حصد؛فعلى الدعاة والقائمين بأمر الله في المجتمعات أن يعلموا أنّ من يزرع الشّوك لا يجني العنب.

فقد رسّخ أهل المقاصد في زمن الكورونا مقولة حفظ النّفس، وبالغوا في بيانها وشرحها، وجعلوها عمدة القول والعمل، وأسّ الفتوى، حتّى ظنّ النّاس أنّ مقصد حفظ النفس مقدّم على كلّ المقاصد ومنها مقصد حفظ الدّين. غرس غرسوه، وزرع زرعوه، فكانت النّتيجة بعد تعطّل الجماعات والجمعة والجنازات، أن تجرأ على دين الله من لا يفقه وفتح الباب لإمكان النظر في صيام رمضان بحجة حفظ النفس.

إنّ حفظ الدّين عند المحقّقين من أهل المقاصد هو أولى المقاصد وأعلاها، وهو أعظمها وأرقاها؛ لذلك أطبق الجمهور على تقديمه على البقيّة، ومنها حفظ النّفس.

جاء في نثر الورود شرح مراقي السعود:

« دينٌ فنفسٌ ثم عقلٌ نسبُ … مالٌ إلى ضرورة تنتسبُ

ورتِّبَنْ ولتعطفَنْ مساويا … عرضا على المال تكن موافيا

فحفظها حتمٌ على الإنسان … في كل شرعة من الأديان

… وقوله: « ورتّبن » يعني أنّه عند التعارض يقدّم حفظ الدّين ثمّ النّفس ثم العقل ثم النسب… ».

وجاء في التقرير والتحبير لابن الموقت الحنفي: « (ويقدم حفظ الدين) من الضروريات على ما عداه عند المعارضة لأنه المقصود الأعظم قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} وغيره مقصود من أجله ولأن ثمرته أكمل الثمرات وهي نيل السعادة الأبدية في جوار ربّ العالمين ».

وجاء في الإحكام للآمدي: « فما مقصوده حفظ أصل الدين يكون أولى نظرا إلى مقصوده وثمرته من نيل السعادة الأبدية في جوار ربّ العالمين، وما سواه من حفظ الأنفس والعقل والمال وغيره فإنما كان مقصودا من أجله على ما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} ». وجاء: « مقصود الدّين مقدّم على غيره من مقاصد الضروريات ».

وليس قصدنا من هذا الدخول في نقاش حول فكرة المقاصد، ولا البحث في مسالك الترجيح بين الكلّيات عند وجود التعارض، ولا تقويم الفتاوى المبنيّة على نظرية المقاصد؛ إنّما القصد أنّ الناس في زمننا ضعف دينها وخفّ إيمانها ومالت إلى التفريط والتقصير، فكان لا بدّ من إحياء الضوابط والمقاييس التي تقوّي فيها بذرة الإيمان لتعتاد التفكير في الدين قبل النّفس، وتقديم مصلحة الإسلام قبل مصلحتها الشخصيّة. ومن أهمّ المفاهيم والمقاييس والقواعد أن يذكّر النّاس في هذا الزمن بأنّ حفظ الدّين مقدّم على حفظ النفس.

جاء في المطالب العالية لابن حجر العسقلاني، باب المحافظة على الدين وبذل المال والنفس دونه، عَنْ يُونُسَ بْنِ جُبير قَالَ: شيَّعنا جُنْدُبًا إِلَى حِصْنِ الْمُكَاتَبِ، فَقُلْنَا لَهُ: أَوْصِنَا. فَقَالَ: « عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ نُورُ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، وهَدي النَّهَارِ، فَاعْمَلُوا بِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ جَهْدٍ وَفَاقَةٍ، فَإِنْ عَرَضَ بَلَاءٌ، فَقَدِّمْ مَالَكَ دون نفسك، فإن تَجَاوَزَ الْبَلَاءُ، فَقَدِّمْ مَالَكَ وَنَفْسَكَ دُونَ دِينك، فإن المحروم من حُرم دِينَهُ، وَإِنَّ الْمَسْلُوبَ مَنْ سُلب دِينَهُ، وَإِنَّهُ لا غنى يُغني بعده النار، ولا فقر يُفقر بَعْدَهُ الْجَنَّةُ، إِنَّ النَّارَ لَا يُفك أَسِيرُهَا ولا يَستغني فقيرها ».

ياسين بن علي

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus (0 )