لا يتحقق العدل في الديمقراطية.. ولا يتحرر القضاء حتى تتحرر الدولة

لا يتحقق العدل في الديمقراطية.. ولا يتحرر القضاء حتى تتحرر الدولة

الحل الوسط هو العقيدة السياسية للنظام الديمقراطي وبالتالي فكل ما ينشأ عن هذه العقيدة السياسية من دساتير وقوانين لن يكون هاجسه البحث عن الحق أين يكمن والعدل أين يلقاه، بقدر ما يحاول الهروب إلى الأمام، وترحيل المشكلات حتى الوصول إلى توافقات مغشوشة كتلك التي حصلت بين الكنيسة والقياصرة، وينسحب هذا الأمر على المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أضف إلى ذلك أن هذا النظام السياسي قد قطع كل صلة بينه وبين خالق الأرض والسماء وبالتالي ستكون حلوله نسبية، جزئية ومتضاربة، وهذا ما يعكسه تضارب القوانين بين دولتين أوروبيتين في اتحاد واحد مثلا، أو بين ولايتين من نفس الدولة، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية التي يختلف فيها الحكم في نفس القضية الواحدة بين ولاية واشنطن وولاية فرجينيا مثلا.

ولعل أكبر مشهد لضياع الحقوق ليظهر جليا في الأمم المتحدة، حيث تتلاعب الدول العظمى بمصير العالم خدمة لمصالحها داخل قبة هذه المنظمة، وقد تنتهك دولة كالعراق المجيد شجرا وحجرا وبشرا، فتصير قاعا صفصفا تحقيقا لشهوة بوش الابن، كل ذلك يحصل تحت مظلة القانون الدولي وحقوق الإنسان التي تضمنها التشريعات الغربية. وهاهي فلسطين الجريحة نزيفها لا ينقطع تبحث عن العدالة منذ 1917 تاريخ وعد بلفور المخزي، فلا تجدها لا عند محاكم أوروبا ولا عند قوانين أمريكا، بل على العكس من ذلك، فان العدالة الديمقراطية تشرع لحق الفيتو الذي لا يرى العدالة إلا في المحافظة على كيان يهود المسخ. وأوضح منه « مسألة الاستعمار الغربي » لبلادنا ما هو التكييف القانوني له وكيف تواطأ الساسة الديمقراطيون على إقناع الشعوب المقتلة أن الثعلب يظهر في ثياب الواعظين. وأين تختزن كل تلك الكمية من الوقاحة والسفور المخجل لحكام جمهوريات الموز-كما فعل قيس سعيد- وتشبه بعدالة عمر بن الخطاب وأنى له أن يقبل و يبرر أن العدالة قد تسحل المجاهدين في الشوارع وقد تغتصب النساء الحوامل وأن الاستعمار الفرنسي حماية.

إذا المشهد واضح لا غبار عليه، لا تتحقق العدالة في الديمقراطية أبدا، ولن تتحقق ما دام الأساس الفكري للنظام السياسي فاسدا من أساسه، وشواهد الممارسات الديمقراطية البغيضة أزكمت أنوف القاصي والداني. فهل ينجو القضاء التونسي من هذه المحرقة ؟

ببساطة لن ينجو القضاء في نصوصه وهياكله ورجاله في تونس من سطوة ظلم « العدالة الديمقراطية »، وذلك لأن القضاء فرع من منظومة سياسية شاملة فلن يخرج الفرع عن الأصل حتما، وان تكررت محاولات التحرر من قبل الغيورين والمخلصين من أبناء هذه الأمة الإسلامية، وكما قلنا مرارا وتكرارا فان جميع القوانين التي تنظم الساحة القضائية انبثقت عن تصور أبتر للحياة سقفه فصل الإسلام عن الدولة، وتمخضت جل إجراءاته التنفيذية عن دستور التأسيسي، الذي بني بدوره على توافقات مغشوشة كانت تغذيها عصا السيد الأوروبي من جهة وتمويلات مشبوهة من صندوق الأمم المتحدة للتنمية من جهة أخرى، أي أن عدالتهم نشأت بين ثنائية الخوف والابتزاز. فمن أين تتحقق العدالة إذا كانت الدولة تحت حراب الاستعمار شكلا ومضمونا، ومن أين يأتي العدل والعالم كله محكوم بمعادلة الدولار « الحق فيها لمن يدفع أكثر ».

في المقام الثاني قدمت محكمة المحاسبات في الأسبوع المنصرم كشوفات مدققة تثبت بالدليل فساد العملية السياسية الديمقراطية برمتها في انتخابات 2019 بتونس التشريعية والرئاسية كما كشف التقرير تورط أحزاب سياسية في تمويلات أجنبية مشبوهة. والعمل الذي يحقق العدل يقضي بأن ما بني على الفاسد فهو فاسد ولكن لم يتحرك أحد في الاتجاه الصحيح إلى اليوم، وبالتالي صدق القائل بأن هذه الانتخابات جريمة مكتملة الأركان. ولكن من المؤكد أن هذا التقرير إن كان بريئا من حيث التوقيت السياسي لإعلانه، سيتم التلاعب به والتعتيم عليه وتوظيفه سياسيا من قبل الطبقة السياسية، التي يتخندق أصحابها تحت أجنحة الدوائر الاستعمارية، كما حصل مع العديد من الملفات التي يعلم القضاة خائنتها وما تخفيه صدور أدراج المحاكم أكثر من أي شخص أخر. وهو ما حصل بالفعل حيث قام مجلس النواب بجلب رئيس محكمة المحاسبات على عجل لتقريعه على ما صدر عنه من إثم والكشف عن وجهة مآربه لعله لا يكون في صف المرضي عنهم دوليا لممارسة الحكم بالوكالة، وهل حقا أراد بهذا الملف الحارق عدالة ديمقراطية أم هو يغرد خارج السرب.

« العدالة الديمقراطية » هي التي كانت تنصب المشانق في تونس للعاملين لاستئناف الحياة بالإسلام، والعدالة الديمقراطية هي التي كانت تطلق على قضاتها على عهد المقبورين بورقيبة وبن علي « قضاء التعليمات »، ونفس هذا النظام الديمقراطي هو الذي أصعد الفاسد والمجرم والحرس القديم للمصالح الغربية الاستعمارية إلى سدة الحكم، وهو نفسه الذي يعتبر العمل السياسي على أساس الإسلام والدعوة إلى الخلافة كنظام حكم جرما يستحق صاحبه عقوبة السجن.

هي دولة مختطفة سياسيا وفكريا. قرارها بيد الدوائر الاستعمارية الغربية وهي تحت الإقامة الجبرية, والذي يحول دون تحررها وتحرر القضاء فيها هم هؤلاء الشرذمة الموظفون من الحكام والطبقة السياسية التي تعمى عمدا عن رؤية مكامن العدل في مشروع الإسلام العظيم وتبتهج حين ترى الظلم يزين على أساس أنه عدالة حقيقية. فدولة لا ينبثق دستورها من عقيدتها وتسجن داخل حدود وهمية وسيادتها ليست بيدها لن تقيم العدل إلا على الطريقة الغربية، حل وسط لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، دولة قد تدوم فيها القضية الواحدة سنوات ضوئية، تضمحل فيها الحقيقة، وينزوي فيها الحق وأصحابه، وتضيع الحقوق علنا، في حين أن الحل أبلج ساطع، لا لشيء إلا أننا ملتزمون بقرارات القانون الدولي الذي لا يعبأ له أحد سوى الضعفاء من الدول المستعمرة.القضاء والعدل في الدولة الديمقراطية حلقة مفرغة أو هو حبل مشنقة من نجا منه بقي أثر الحبل في عنقه.

أ, محمد السحباني

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )