بعد رفض استفتاء « كاتالونيا »  انكشاف الديمقراطية وازدواجية المعايير

بعد رفض استفتاء « كاتالونيا » انكشاف الديمقراطية وازدواجية المعايير

أظهرت ردود الأفعال الأوروبية الرافضة  لنتيجة الاستفتاء على استقلال إقليم « كاتالونيا »  الاسباني عن أزمة سياسية وفكرية عميقة وعن انكشاف حقيقة نظامهم السياسي ومدى التزامهم بفكرة الديمقراطية ومفاهيمها الرئيسية – حق تقرير المصير- مقارنة بمصالحه النفعية وسياسته الاستعمارية.

            فسيادة الشعب واحترام إرادته وخياراته هو ركن أساسي في النظام الديمقراطي، والاستفتاء في الفكر السياسي الغربي من أقوى أنواع التعبير عند الشعوب، والذي يفتخر حكام أوروبا بالالتزام به ودعوة الشعوب والدول الأخرى إلى احترامه. إلا أن قوة  الدعوة إلى هذه المفاهيم والحرص على نشرها في العلاقات الدولية تتفاوت بحسب التقائها مع المصالح النفعية الاستعمارية للدول الديمقراطية التي كثيرا ما تصمت على انتهاكها ولا تتردد أحيانا في التنكر لها ومحاربتها.

        لذلك فان للدول الأوروبية تاريخ طويل مع ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين حين يتعلق الأمر بحرية الشعوب وتحديدا حق تقرير المصير الذي يعد من أهم ما نصت عليه حقوق الإنسان في الحضارة الغربية.

  • ففي سنة 1991 اعترفت الدول الغربية الديمقراطية باستقلال « مولدافيا » عن الاتحاد السوفيتي, ولكنها لم تعترف باستقلال إقليم « ترانيسترا » عن « مولدافيا »  سنة 1992 .
  • وفي « يوغسلافيا » السابقة اعترفت الدول الغربية باستقلال « كرواتيا » و »سلوفينيا » سنة 1991, لكنها وقفت بشدة ضد استقلال مسلمي « البوسنة والهرسك » وتم إرسال قوات من الأمم المتحدة « القبعات الزرق » للحيلولة دون ذلك.
  • وفي سنة 2014 ساندت الدول الغربية المظاهرات التي حصلت في « أوكرانيا »، والتي انتهت بالانقلاب على حكم الرئيس المنتخب المؤيد ل »روسيا »، ولكن حين اجري استفتاء في إقليم « دونباس » من اجل الاستقلال والانفصال عن « أوكرانيا » لم تعترف به الدول الغربية وتغاضت عن إرسال قوات الجيش إلى ذلك الإقليم  لقمع الانفصاليين.
  • وفي سنة 2009 أيدت الدول الغربية انفصال إقليم « كوسوفو » عن « يوغسلافيا » بينما ترفض هذه الأيام الاعتراف باستقلال إقليم « كاتالونيا » عن « اسبانيا » .

        كل هذه الأحداث تظهر بوضوح أن المفاهيم الديمقراطية مثل حرية الشعوب وحق تقرير المصير يتم استخدامها بهدف خدمة المصالح النفعية والاستعمارية للدول الغربية, فلا غرابة أن تساهم  تلك السياسة في تفكيك دول الاتحاد السوفيتي ودوله التابعة في الحقبة الماضية، وأن تستخدم لاحقا في تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ من البلاد الإسلامية بتحريض وتخطيط واضح من الدول الغربية الديمقراطية، فتنفصل نتيجة لذلك « تيمور الشرقية » عن « اندونيسيا »، و ينفصل جنوب السودان عن شماله، ويتم التمهيد لتقسيم العراق وسوريا وليبيا.

 ولكن حين يتعلق الأمر برغبة بعض الشعوب الواقعة تحت حكم الدول الغربية في الاستقلال و تقرير مصيرها، تقف تلك الدول ضدها بقوة بحجّة عدم المساس من الوحدة الترابية لتلك الدول، فتُرفض الدعوات الانفصالية لولاية « كاليفورنيا » عن الولايات المتحدة الأمريكية، ويمنع انفصال « إقليم الكيبيك » عن « كندا » ويمنع انفصال إقليم « ألباسك » و »كاتالونيا » عن « اسبانيا ».

         الحقيقة الواضحة في البلدان الديمقراطية انه بالرغم من ادعاء سيادة الشعب فان أكثر ما يخشاه الحكام في تلك البلدان هو رأي تلك الشعوب في المناسبات الانتخابية، رغم أن دور الناخبين في تلك الشعوب لا يتعدى إضفاء الشرعية على ما تختاره لهم النخب السياسية. لذلك فإذا حصل توافق بين ما يريده الشعب وما تريده النخب الحاكمة، كانت إرادة الشعب محترمة، أما إذا حصل اختلاف وتضارب مصالح بين ما يريده الشعب وما تريده الطبقة الحاكمة مثل تخفيف الضرائب عن رجال الأعمال أو سياسة الاتحاد الأوروبي فان رأي الشعب عندها يُصبح غير عملي وغير جدير بالإتباع، ويكون الحل في إعادة الانتخابات أو الاستفتاء بعد أن تتحرك الآلة الإعلامية ومؤسسات سبر الآراء من اجل التحكم في الرأي العام وسوق الجماهير إلى ما يريده الحكام.

           ففي أوروبا عندما رفض الفرنسيون والهولنديون عبر الاستفتاء مشروع « الدستور الأوروبي » سنة 2005، مثّل ذلك صدمة كبيرة فتم إيقاف مواعيد استفتاء كانت مقررة في كل من الدنمارك وايرلندا وبريطانيا وبولونيا، ثمّ أجريت بعد ذلك  تعديلات شكلية على مشروع « الدستور الأوروبي » واُعيد تسميته « معاهدة برشلونة »، ثم بعد حملة إعلامية قوية اُعيد الاستفتاء ليُقبل في فرنسا في 2007. ونفس الأمر حصل في « ايرلندا » حيث رُفضت « معاهدة برشلونة » في استفتاء أول في 2008، وبعد أن قرر الاتحاد الأوروبي إعادة الاستفتاء بحجة أن الايرلنديين لم يفهموا المعاهدة، قُبلت المعاهدة في استفتاء 2009.

         وهكذا فان الشعوب الأوروبية التي ظلت لقرون عديدة تحت حكم الملوك وأعوانهم  مستخدمين الكنيسة ومؤسساتها  كالمجمع الكنسي لإضفاء الشرعية الدينية على قراراتهم، هذه الشعوب لا تزال في هذه السنوات  خاضعة لتحالف طبقة كبار رجال المال والأعمال والإعلام مستخدمين الأفكار الوهمية الديمقراطية متلاعبين بطقوسها الإجرائية من أجل إخضاعهم والتحكم في مصائر.

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )