من يُصدّق أن فرنسا الاستعمارية جاءت لمساعدة تونس؟

من يُصدّق أن فرنسا الاستعمارية جاءت لمساعدة تونس؟

لمحة عن مضمون الزيارة الفرنسية إلى تونس

وصل رئيس الوزراء الفرنسي « جان كاستكس » إلى تونس مساء الأربعاء 2 جوان 2021 في زيارة ليومين يرافقه فيها ستة وزراء، بهدف تعزيز العلاقات مع بلد يشهد أزمات عميقة ومتعددة الأبعاد ويرزح تحت وطأة جائحة فيروس كورونا ويطارده شبح الإفلاس. وقد تناولت المحادثات ملفات « الشراكة الاقتصادية » و »الدعم » و »الأزمة الصحية »، كما تخلل الزيارة توقيع اتفاقات، وجولة في ورشة بناء شبكة للقطارات السريعة في تونس، ولقاء حول المجال الرقمي ينظمه رجال أعمال تونسيون وفرنسيون.

 وبعد شهرين من إرجاء مثير للجدل لزيارة كان يفترض أن يجريها كاستكس إلى الجزائر بحثا عن فرص جديدة للاستثمار في شمال إفريقيا، يجري رئيس الوزراء الفرنسي أول زيارة دولية له على هذا القدر من الأهمية للمشاركة في ثالث « مجلس أعلى للتعاون » الفرنسي-التونسي.

وأكد المشيشي بعد اختتام أعمال الدورة الثالثة للمجلس الأعلى للتعاون التونسي الفرنسي أن المجلس الأعلى للتعاون مثل موعدا متجددا للوقوف على مدى التقدم الحاصل في تنفيذ المشاريع والبرامج المشتركة واعتماد الخطط الثنائية لكافة القطاعات ذات الأولوية مع استكشاف الفرص المتاحة في المجال الاقتصادي والمالي والتعليم العالي والبحث العلمي والرقمنة والتربية والتكوين المهني. 

وثمّن المشيشي دعم فرنسا لمخطط « الإصلاحات الكبرى » التي تعتزم الحكومة التونسية تنفيذه فضلا عن وقوف الشريك الفرنسي إلى جانب تونس في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات الأوروبية لحشد الموارد الضرورية لتنفيذ الإصلاحات المذكورة. وقد صرّح بأن اللقاء مثل فرصة لتحديد أولويات الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي للفترة 2021-2027. 

كما شدد المشيشي على تأمين كل الظروف الملائمة لإنجاح القمة الـ 18 للفرنكفونية التي ستحتضنها تونس في نوفمبر القادم فضلا عن التظاهرات التي سيتم تنظيمها للنهوض بالتعاون في الفضاء الفرنكفوني ومنها الملتقى الفرنكفوني الأول للأمن المزمع عقده بتونس في 29 جوان 2021، إضافة إلى تعزيز التعاون لمكافحة ظاهرتي الإرهاب والجريمة من خلال مزيد التنسيق في المجال الأمني والتكوين وتبادل الخبرات وتطوير التعاون القضائي وآلياته.

من جهته، أكد جان كاستاكس التزام فرنسا بدعم تونس لمجابهة كورونا من خلال تقديم تجهيزات ومعدات بقيمة تناهز 10 مليون دينار، كما تعمل على دعم حصول تونس على التلاقيح في أفضل الآجال. 

وقال إن فرنسا تدعم تونس في الإصلاحات الاقتصادية التي يجب أن تتحقق في أقرب الآجال، مشيرا إلى أن تونس يجب عليها التحكم في حجم المديونية، حسب تعبيره. وإضافة إلى التعهد الفرنسي بدعم طلب تونس الاقتراض من «صندوق النقد الدولي» تم توقيع إعلان سياسي مشترك و7 اتفاقيات وإقرار خريطة طريق.

وتتمثل أبرز الاتفاقيات الموقعة بين البلدين في اتفاقية قرض سيادي بقيمة 41 مليون يورو لصالح ديوان البحرية التجاريّة والموانئ، واتفاقية تمويل بـ 300 ألف يورو في شكل هبة لبعث نظام تصرف بيئي واجتماعي بديوان البحرية.كما تم توقيع ضمان الدّولة التونسيّة لاتفاقية قرض سيادي بقيمة 40 مليون يورو لتمويل مشروع يهدف إلى الرفع من القدرات التونسية لمجابهة الكوارث الطبيعيّة.

إلى جانب اتفاقيّة شراكة لتطوير القدرات الصناعيّة والبيئيّة لمحطتي تحلية المياه، بين كلّ من الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه الحكومية والوكالة الفرنسيّة للتنمية، بالإضافة إلى إمضاء وثيقتي إعلان نوايا في المجالين الرقمي والتجاري، واتفاق إداري في المجال الفلاحي.

كما عبّر رئيس الوزراء الفرنسي في ختام كلمته خلال الندوة الصحفية المشتركة عن أمل بلاده في دفع علاقات التعاون الثلاثي بين فرنسا وتونس وليبيا، وأن يكون لتونس دور فاعل في هذه الشراكة الهامة في هذه المنطقة الاستراتيجية على حد تعبيره. وكشف « جان كاستاكس » لاحقا أنه تم التطرق خلال اللقاء مع الرئيس قيس سعيد إلى التعاون لتحقيق الأمن والاستقرار في ليبيا إلى جانب التطرق إلى عدة قضايا في منطقة الشرق الأوسط وكذلك للاستعدادات لاحتضان تونس للقمة الفرونكفونية.

ما هي حقيقة هذه الزيارة وما هي أبعادها؟

لا يخفى على كل متابع، أن زيارة رئيس الوزراء الفرنسي إلى تونس جاءت عقب زيارة أداها رئيس الدولة قيس سعيد إلى فرنسا، وتحدث فيها عن غياب مناخ الاستثمار في بلدهبشكل استهجنه جل المتابعين في وقت تراجع فيه نشاط العديد من الشركات الفرنسية وتزايدت فيه مخاوف فرنسا من مزاحمة الشركات البريطانية والأمريكية وحتى الشركات متعددة الجنسيات، وكأن تصريحات قيس سعيد هي لسان حال الشركات المزاحمة خاصة في مجال التكنولوجيا، مما جعل فرنسا تستنفر لإنقاذ شركاتها المنتصبة في تونس والتي لا تقل عن 1400 شركة في مجالات عدّة، وتعمل على تحسين صورة تعاملها مع هذا البلد الذي نجح رغم الأزمات المتراكمة في الداخل لأن يكون (عبر قطاعه الخاص) المستثمر الإفريقي الأول في فرنسا لسنة 2020، كما ذكّر بذلك رئيس الوزراء الفرنسي خلال كلمته ضمن الندوة الصحفية المشتركة. 

من جهة أخرى، فإن الناظر في مضمون القروض والاتفاقيات الأخيرة بين البلدين، يدرك أن فرنسا تسعى جاهدة كي لا ينفرط العقد في يدها، بحيث لا تخسر تواجدها الاقتصادي في هذا البلد بما يؤثر سلبا على حجم استثماراتها، وعليه فإن القروض المرصودة والدور الموكول إلى الوكالة الفرنسية للتنمية هو كلّه من أجل إنقاذ الاقتصاد الفرنسي المتراجع بالأساس، ضمن الأزمة التي تكاد تعصف بكامل الاتحاد الأوروبي المتداعي، معوّلة ربما على انزلاق الدينار أمام عملة اليورو، وعلى ثقة غير مكتملة في مستقبل هذه العملة الموحدة.

فقد توقعت المفوضية الأوروبية في المدة الأخيرة أن يشهد الاتحاد الأوروبي حدوث ركود « تاريخي » هذا العام، بسبب تداعيات جائحة كورونا. وأكد المفوض الأوروبي للاقتصاد « باولو جنتيلوني » أن « أوروبا تواجه صدمة اقتصادية غير مسبوقة منذ الكساد الكبير » الذي حدث في 1929.

كما أكد وزير الحسابات الفرنسي السبت أن عجز ميزانية الحكومة سيصل إلى « نحو 220 مليار يورو » في 2021، بسبب الأزمة الحادة التي تسبب بها وباء كورونا، وسجّل الاقتصاد الفرنسي ركوداً كبيراً عام 2020 جراء أزمة تفشِّي الوباء مع تراجع إجمالي الناتج الداخلي.

هذه التصريحات الأخيرة المتزامنة، تذكرنا بموقف »ماري لوبان » زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني في فرنسا، التي تعادي الوحدة الأوروبية وتنادي بخروج بلادها من الاتحاد الأوروبي، حين قالت بأن مصير العملة الأوروبية الموحدة « اليورو » الانهيار لا محالة.

وهذا بدوره ما أعرب عنه »آلانجرينسبان » الخبير الاقتصادي الشهير والمحافظ السابق لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عن قناعته بأن مصير اليورو الانهيار، وأن القضية مرتبطة بعامل الوقت فقط، فلا شك أننا أمام وجهة نظر تتطلب وقفة جادة من قبل الخبراء والعقلاء لمعرفة المستقبل المتوقع لليورو، ولمستقبل فرنسا على وجه التحديد التي يؤرقها شبح تفكك الاتحاد الأوروبي،إذ قد تكون أكبر متضرر من انهيار عملته.

خلاصة القول إذن أن فرنسا الاستعمارية، لم ولن تتخلى عن عقليتها القديمة في التعامل مع بلدان الشمال الإفريقي، وهي لا تنتظر لتونس اليوم إلا كعجلة احتياط لإنقاذ اقتصادها المتراجع بل المتهاوي، وإلا لما أغرقت هذا البلد المتأزم بمزيد من الديّون، ولما لعبت دور الوساطة مع صندوق النقد الدولي ولما لوّحت بإمكانية تحويل جزء من ديون تونس لدى فرنسا إلى استثمارات. فهل يصدق عاقل أنها تقوم بذلك دون مقابل ومن أجل عيون أهل هذا البلد المسلم الذي كانت بالأمس القريب تذبح أبناءه وتستحيي نساءه؟ ثم أليس تعمد رئيس حكومة فرنسا وحرمه تدنيس جامع الزيتونة المعمور هو جزء من حرب فرنسا الصليبية على الإسلام، وإعلان انتصار وهمي على رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بوصفها رسالة عالمية ونظاما ربّانيا لا بدّ له من دولة تطبّقه وتحمل دعوته؟ ثم هل اعتذرت فرنسا عن إساءتها للنبي صلى الله عليه وسلم حتى نفتح لها الأبواب على مصراعيها؟

إن هذا الأمر كلّه، لا يخفى على بريطانيا التي تمسك بزمام أمور السياسة في تونس، والتي سارعت بربط هذا البلد باتفاقيات تعاون في جل المجالات عقب خروجها من الاتحاد الأوروبي وتهيئة الأرضية التشريعية لذلك بعد الاطمئنان على مسار فصل الإسلام عن السياسة والحكم، والمخجل في كل ما يجري، أن ساسة هذا البلد لا يحاولون التفكير مطلقا في التخلص من التبعية والانعتاق من ربقة الاستعمار، فضلا عن إمكانية التحرر على أساس الإسلام، بل هم يتنافسون على الارتماء في أحضان الجهات الدولية المتزاحمة على اختطاف هذا البلد وتحويل وجهة ثورته ضد النظام الرأسمالي وأزماته المتراكمة، رافعين شعارات ديمقراطية خادعة، تجذب صغار النفوس وضعاف العقول، مع أن مطامع الدول الغربية صارت أوضح من أن يشار إليها بالإصبع. 

في هذا السياق، ورد على لسان الخبير الاقتصادي والمستشارالسابق بوزارة التنمية والاستثمار والتعاون الدولي « رضا الشكندالي » في تصريح له لجريدة القدس العربي (اللندنيّة) تعليقا على الزيارة الفرنسية الأخيرة وفي إشارة ضمنية للنوايا الفرنسية المبيّتة،قوله: « إنّ شروط إمضاء فرنسا لضمان اقتراض تونس من صندوق النقد الدولي غير معلومة، ربما تتمثل في التزام تونس بتطبيق إصلاحات معينة، والتعهد بالاستفادة من الموقع الاستراتيجي لتونس مع ليبيا، عبر تفعيل حصص فرنسا من ملف إعادة إعمار ليبيا ». 

هذا الكلام كاف لتفسير تأكيد رئيس الوزراء الفرنسي خلال مداخلته على أهمية دفع علاقات التعاون الثلاثي بين فرنسا وتونس وليبيا… وعينه على الجزائر التي ظل يؤخر زيارته إليها… 

ختاما، فإنه لا سبيل لإنهاء هذا المسار من الاستجداء المهين والتسول المخزي على أعتاب الجهات الدولية، إلا بإقامة دولة إسلامية هي دولة الخلافة الراشدة التي تنظر للإسلام على أنّه كلّ لا يتجزأ، ولا تحصر الدّين بين سواري المساجد، بل تطبق النظام الاقتصادي ضمن تطبيقها لسائر أحكام الإسلام، لا تفريق بين حكم وحكم، فجميع أحكام الله سواء في وجوب التطبيق، قال تعالى:﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾. سورة البقرة-الآية 85.

المهندس وسام الأطرش

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )