حقوق الإنسان الشرعية

حقوق الإنسان الشرعية

الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

يتوخى الإنسان، بوصفه الفردي أو الجماعي، عند قيامه بإشباع ما جبل عليه من متطلبات تدفعه إليها غرائزه وحاجاته العضوية جلب المنفعة ودفع المضرة، أي يتوخى تحقيق المصلحة له كفرد له متطلباته الخاصة به ومستحقاته الشخصية التي لا يشاركه فيها أحد، وكفرد هو جزء من مجتمع يعيش فيه قام على علاقات تولدت بينه وبين غيره.

فالمصلحة إذن هي ما يسعى إليه الإنسان بوصفه الفردي أو الجماعي. إلاّ أنّ هذه المصلحة عرضة للتفاوت والتعارض والتضييع بحكم عيش الإنسان في مجتمع مع غيره من بني الإنسان، مما يعني التعارض بين بني الإنسان في تحديد ما يجلب من منفعة ويدفع من مضرة، وفي تعيين ما يحب ويكره؛ لذلك كان لا بدّ من جهة تعيّن للإنسان المصلحة، وتحدّد له، بوصفه الفردي أو الجماعي، ما يجلب من منافع ويدرأ من مفاسد.

 وقد اتفقت البشرية قاطبة على وجوب وجود جهة تعيّن للإنسان المصلحة والمفسدة، وإلزام الناس بها، إلاّ أنهم اختلفوا في واقع تلك الجهة التي تعيّن المصلحة للإنسان، فمنهم من جعل العقل أو الإنسان أو الطبيعة جهة التعيين، ومنهم من جعل الشرع أو الوحي أو الله، وبعبارة أخرى فإن المتفق عليه بين البشر أنّ القانون هو الذي يعين المصلحة، والمختلف فيه بينهم هو مصدر القانون، هل هو إنساني طبيعي أم إلهي ربّاني.

 والمصالح التي يُعيّنها القانون للإنسان هي ما يطلق عليها لفظ الحقوق. بناء عليه، فإنّ المراد بالحقّ هو المصلحة التي يقرها القانون للإنسان بوصفه الفردي أو الجماعي.والمصلحة لا تعتبر حقا إلا إذا أقرّها القانون، فإذا لم يقرها القانون لا تعتبر حقا وإن كانت مصلحة من وجهة نظر ما؛ لذلك، كان الأساس في تعيين الحقوق هو القانون. ولمّا كان القانون نابعا من مصدر ما، العقل أو الشرع، كان الأساس في تحديد صحته وبطلانه النظر في المصدر، فإن كان صحيحا صحّ ما تفرع عنه من حقوق، وإن كان باطلا بطل ما تفرع عنه.

ولما كان العقل البشري عاجزا وناقصا ومحدودا، وعرضة للتفاوت والتناقض والتأثر بالبيئة، فهو غير قادر على وضع نظام شامل متكامل يضمن للإنسان الوفاء بمتطلباته الجبلّية، ويحقّق له إشباع غرائزه وحاجاته إشباعا صحيحا متناسقا، لا إفراط فيه ولا تفريط؛ لذلك جاء الإسلام بنظام ينظم هذه العملية في تكامل وتناسق، فلم يكبت غريزة على حساب الأخرى، ولم يشبع جوعة ويترك الأخرى، بل نسّقها جميعها وأشبعها بنظام دقيق يهيئ للإنسان الهناءة والرفاه، ويحول بينه وبين الانتكاس إلى درك الحيوان بفوضوية الغرائز والطبع الحيواني.

 فقد جاء الإسلام بأحكام تنظم علاقة الإنسان بخالقه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بغيره من بني الإنسان؛ فجاء بأحكام العقائد والعبادات، والأخلاق، والمطعومات والملبوسات، والمعاملات، والعقوبات وغير ذلك، وبيّن للإنسان المصلحة التي تجلب والمفسدة التي تدرأ، وفصّل له ما له من حقوق وما عليه.

وباستقراء النصوص الشرعية، وما جاءت به من أحكام كلية وجزئية لمعالجة مشاكل الإنسان، وتنظيم علاقاته، نجد الإسلام قد أقرّ للإنسان جملة من الحقوق، منها:

1 . حقّ الحرّية

 الحرّية في واقعها هي ضدّ العبودية، والتحرّر هو التخلّص من القيود المكبلة للسيادة. لذلك، يقال عن العبد إذا انعتق من قيد عبوديته إنّه تحرر أي صار حرّا، ويقال عن البلد الذي انعتق من قيد الاستعمار إنه تحررّ. وهذا يفيد أن الحرّية حالة، صفة أو هيئة، يكون عليها الإنسان، تمكنه من ممارسة إرادته أي تحقيق سيادته.

وقد اعتبر الإسلام الحرّية حقا مستوجبا لكلّ إنسان، ونظر إليها كصفة من الصفات اللازمة له حتى تتحقّق كينونته وتمارس إرادته، فجعلها أساسا من أسس الأهلية المعتبرة في صحة التكليف ببعض الأحكام الشرعية، واشترطها في جملة من الأحكام كالحج، والزكاة والولاية، كما اعتبر الإسلام العبودية مانعا يمنع الإنسان من تحقيق كينونته المطلقة وسيادته التامة لما تفرضه من أهلية ناقصة تستوجب استثناءه من التكليف ببعض الأعمال والتصرفات؛ لذلك، عالج الإسلام مشكلة الرق التي كانت موجودة في كل المجتمعات، وشرّع جملة من الأحكام تؤدي إلى عتق الأرقاء جبرا واختيارا، حتى تمكن من إنهاء الرق في المجتمع وإعادة الإنسان إلى حالته الأولى الطبيعية وهي حالة الحرّية.

2 . حقّ إشباع المتطلبات الجبلّية

 لقد خلق الله الإنسان وجعل فيه جبلّة معيّنة تتمثّل فيما يطلق عليه اسم الغرائز والحاجات العضوية التي تتطلب منه الإشباع، فإذا لم تشبع على وجه صحيح أدت إلى قلق الإنسان أو هلاكه. لذلك، اعتبر الإسلام إشباع الإنسان لهذه الغرائز والحاجات وسعيه لذلك حقا طبيعيا له؛ فشرّع من الأحكام ما يضمن إشباع ذلك إشباعا صحيحا كليا ومنظما، فشرّع الزواج لإشباع الميل الجنسي، وشرع حيازة الثروة والانتفاع بها لإشباع الميل إلى التملك، وشرع غير ذلك من الأحكام مانحا للإنسان من خلالها حقه في إشباع ما جبل عليه.

ورغم أن الإسلام قد منح للإنسان مطلق الحق في إشباع غرائزه وحاجاته، وما تفرع عنها من متطلبات، إلا أنّه أكد على ضرورة توفير الحاجات الأساسية للإنسان معتبرا إياها حقّا مضمونا. فلم يكتف باعتبارها حقّا فقط، بل جعلها حقا مضمونا تلتزم الدولة بتأمينه لرعاياها، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين. ويتمثل هذا الحق المضمون في التزام الدولة بتوفير المسكن، والملبس، والمأكل، والتعليم، والتطبيب لكلّ رعاياها، وهذا يقتضي توفير فرص العمل لهم، فإذا لم يتوفر ذلك أنفقت الدولة عليهم، ويقتضي هذا أيضا إنشاء المستشفيات والمدارس المجانية وغير ذلك مما يضمن إشباع هذه الحاجات الأساسية للناس.

3 . حقّ الكرامة

إنّ الإنسان مخلوق فضله الله على كثير من خلقه، فأعزّه وشرّفه وعظّم من مكانته ورتبته في الوجود. لذلك أثبت الإسلام للإنسان حق الكرامة بما تحمله الكلمة من معان كالتشريف والاحترام. وتتمثّل كرامة الإنسان في أمور خمسة هي: عقله ونفسه وعرضه وشعوره وملكه.

 أمّا العقل فهو الأساس في التكريم؛ لأنّه به يتميز الإنسان عن الحيوان، وبه يميّز الإنسان الحقّ من الباطل، وبه يحقّق كينونته ويحدّد سيرورته ويتكشف صيرورته. فالإنسان هو الكائن العاقل. لذلك، فقد حثّ الإسلام الإنسان على استعمال عقله، فجعل من حقّه التفكير والتعبير، وفسح له المجال ليتدبر فيما يقع عليه حسه ويدركه عقله، وأوجب احترام نتاج تفكيره، وشرع من الأحكام ما يضمن له هذا الحقّ ويحفظه كوجوب الاجتهاد، وحرمة التقليد في الاعتقاد، وعدم الإكراه على الرأي، وحرمة تناول ما يؤثر في عمل العقل.

وأمّا النفس فهي الروح والجسد والدم، وقد عصم الإسلام دم الإنسان، وصان النفس البشرية من أن تزهق بغير وجه حقّ، أو تعذب أو يمثّل بها، وشرع للإنسان أن يقاتل دونها.

 وأمّا العرض فهو موضع المدح والذم في الإنسان، وهو الجانب الذي يصونه الإنسان من نفسه ومن يلزمه أمره، فيحامي عنه أن ينتقص أو يثلب، وبعبارة أخرى فهو شرف الإنسان في حسبه ونسبه. وقد صان الإسلام هذا الجانب من الإنسان، فحرم الزنا، والاغتصاب، وقذف المحصنات، والطعن في الشرف، وشرع القتال دونه.

وأمّا الشعور فهو ما يجده الإنسان من مشاعر وأحاسيس في داخله، كالشعور بالمهانة أو العزة أو غير ذلك. وقد احترم الإسلام مشاعر الناس، فحرم الإيذاء المعنوي بسخرية أو احتقار أو إهانة، وحرم الغيبة، والهمز واللمز، وأمر بالتحلي باللين في القول، والتلطف، والتواضع للناس جميعا وعدم التكبر عليهم.

وأمّا الملك فهو اختصاص الإنسان بحيازة شيء، كالنقود والدار والأرض، والانتفاع به. وقد أجاز الإسلام للإنسان التملك، وعين له كيفياته، وشرع ما يحفظه له كعقوبة السارق والغاصب. وقد اعتبر الإسلام الدفاع عن الأرض دفاعا عن الكرامة، لذلك شرع قتال المعتدين المغتصبين، وأمر بجهاد المستعمرين، واعتبر الحرب من أجل استرداد الأرض المغتصبة حقا مشروعا لكل الناس.

4 . حقّ المشاركة السياسية

 الإنسان من حيث هو إنسان، أو الفرد من حيث كونه يعيش في هذه الحياة هو سياسي يحبّ السياسة ويعانيها؛ لأنّه يسوس نفسه فيرعى شؤونه ويدبّرها، أو شؤون من هو مسؤول عنهم، أو شؤون أمته، ولذلك قيل عنه إنه كائن سياسي.

والسياسة من حيث واقعها عند كل البشر تكون من قبل الدولة والأمة. فالدولة تباشر هذه الرعاية وتمارسها عمليا، والأمة هي التي تحاسب بها الدولة وتراقبها. والإسلام حينما أعطى الحاكم حقّ السياسة عمليا، أعطى الأمة حقّ اختياره؛ فلا يجوز لإنسان أن يغتصب السلطة من يد الأمة، ويحكمها بالقوة والقهر، بل يتولاها إذا ولته الأمة وبايعته. لذلك فإن اختيار الحاكم الذي يحكم البلاد حق للأمة لا يفرط فيه. كما أنّ الشورى، وإقامة الأحزاب السياسية، ومحاسبة الحكام حقّ للأمة شرعه الإسلام.

ياسين بن علي

CATEGORIES
TAGS
Share This

COMMENTS

Wordpress (0)
Disqus ( )